الجرعة القاتلة ..!

كتب- محمد العولقي

حكايتنا مع الاتحاد الدولي لكرة القدم (فيفا)، تذكر بالأعور الذي ضربوه على عينه فقال : لا مشكلة .. خسرانة .. خسرانة ..
لا يمكن لرئيس الاتحاد الدولي (جاني أنفانتينو) أن ينكر سعيه الدؤوب وغير المبرر لتحويل بطولات كأس العالم القادمة إلى (زامل) شعبي ينتصر فيه (الكم) على حساب (الكيف) ..

وعندما يلح (أنفانتينو) ويصر على رفع عدد المنتخبات المشاركة في نهائيات كأس العالم إلى 48 منتخبا، فهو بهذا العدد الليموني يصيب المستوى الفني لأرقى بطولة عالمية في مقتل ..

ظل السواد الأعظم من الفنيين يحذرون (الفيفا) من مغبة اللعب بالنار في بطولات كأس العالم، ومن مخاطر مس كرامة بطولة يفترض أنها تجمع منتخبات (النخبة) حول العالم، لكن مسيلمة الكذاب (بلاتر) وضع في أذنيه وقرا، لأنه كان يفكر طوال عقدين من حكمه بعقلية تجارية تدر على (الفيفا) مال قارون، على حساب المستوى الفني للعبة ..

ولم يكذب خلفه (أنفانتينو) خبرا، فانطلق بسرعة الصاروخ نحو (المال) السائب، وهو ما ترك في نفوس الفنيين المقهورين على المستوى ذلك الإحساس الذي دفع سعد باشا زغلول إلى التشاؤم من المستقبل، وهو يطلب من (صفية) تغطيته على خلفية أنه مافيش فائدة ..

المتتبع لمسار النصف الأول من ولاية السيد (أنفانتينو) سيندهش من حجم إصراره على رفع عدد المنتخبات في نهائيات كأس العالم، وهو مسار يعكس قوة الطباع التي تحكم (الفيفا) في غياب العقل والمنطق معا ..

والشهادة لله، لقد نجح (أنفانتينو) في زغللة عيون أعضاء الجمعية العمومية للفيفا بضرورة رفع العدد، طالما أن هذا المشروع للتربح التجاري ورفع القيمة التسويقية لبطولات كأس العالم القادمة، دون دراسة فنية تحفظ لبطولة كأس العالم إثارتها وقوتها وتركيبتها المدهشة التي تنتصر للأقوى والأفضل والأكمل ..

يبدو لي أن اللجنة الفنية التابعة للاتحاد الدولي لكرة القدم مجرد خيال مآتة، فأعضاؤها يحركون رؤوسهم ذات اليمين وذات الشمال على حسب ما تشتهيه سفن الشركات التجارية العملاقة التي ترى في لاعب كرة القدم سلعة رائجة يجب استغلالها ولو على حساب صحته وعافيته ومستواه..

انتقلت عدوى التلاعب بمصير المستوى الفني لبطولات كأس العالم من (بلاتر) إلى (أنفانتينو)، لكن مع فارق أن الثاني يشعر أن أيامه في (الفيفا) معدودة، فيسعى إلى إثبات أن تسعة أعشار الرزق في بطولات كأس العالم، وهو ما يدفع (أنفانتينو) إلى عجن بطولات كأس العالم مستقبلا، من خلال نظرية (زيدي ماء .. زيدي طحين) ..

عندما تتحول بطولة كأس العالم من بطولة للنخبة إلى سوق شعبي يسرح في ملاعبه كل من هب ودب، فاقرأوا الفاتحة على (الجودة) الفنية، وشرعوا الأبواب للنطيحة والمتردية وما أكل السبع ..

يعتقد (أنفانتينو) أن رفع عدد مقاعد المتأهلين إلى نهائيات كأس العالم من 32 منتخبا إلى 48 منتخبا، سيسهم في ارتفاع شعبية كرة القدم، كما أن الزيادة ستكون فرصة لمشاهدة منتخبات مثل جبل طارق وفيتنام وليسوتو وربما فريق حارتي في النهائيات، لكن ماذا عن المستوى الفني الذي يتجاهله (أنفانتينو) بحكم أنه لم يمارس كرة القدم يوما ما ..؟

أتصور أن الزيادة في عدد المقاعد ستكون جرعة قاتلة، والنتيجة أننا سنشاهد في النهائيات الحد الأقصى من الكر والفر، والإقبال والإدبار إلى آخر معلقة امرئ القيس، ستكون المباريات على كثرتها أشبه بدوري الحواري للفرق الشعبية، سيتلاشى المستوى الفني نهائيا، عندها قد يفكر (البورد) في حماية كرة القدم كلعبة راقية جالبة للسعادة وليس التعاسة، وربما سيفكر في إعادة رد الاعتبار لبطولة الجزر البريطانية المغضوب عليها سياسيا، فمستوى مبارياتها سيكون أرفع فنيا من بطولة عالمية ترى في كرة القدم سلعة فائقة الجودة، وسوقا يعج بمختلف البضائع المنتهية الصلاحية ..

لا يبدو في الأفق من هو قادر على إيقاف مشروع (أنفانتينو) التجاري عند حده، فالاتحادات التي تشكل جمعية (الفيفا) العامة تخنقها الفروق الفردية والثقافة الكروية، فلو وضعنا في اعتبارنا أن ثلاثة أرباع الجمعية العمومية للفيفا هم أساسا تجار وسماسرة وبناشرة، فكيف لهم أن يشعروا بخطورة الجرعة الزائدة؟، ثم كيف لهم أن يدافعوا عن المستوى الفني وهم يعانون من أمية وجهل مركب برسالة كرة القدم ..؟

المضحك في مسلسل (شر البلية) أن الثعلب (أنفانتينو) يلوح ببيرق رفع العدد إلى 48 منتخبا ابتداء من البطولة القادمة، كما لو أنه واثق تمام الثقة من انتزاع حق التصويت في كونجرس (الفيفا) بعد شهرين ..

لن نخوض في الأعباء التي ستترتب عليها الزيادة القاتلة، والتي تجعل من تنظيم دولة واحدة لبطولة كأس العالم بعددها الليموني ضربا من الخيال، لكننا هنا بصدد معرفة الفائدة الفنية من تحويل البطولة من صراع فني ساخن لمنتخبات (النخبة) إلى تظاهرة شعبية لا تختلف عن مهرجانات التعارف واستعراض تراث شعوب كوكب الأرض ..

لو يفتش (أنفانتينو) قليلا في أرشيف بطولات كأس العالم بعين فنية، سيكتشف بسهولة أن آخر مباراة في بطولة كأس العالم كان مستواها الفني في (التوب)، هي مباراة منتخبي إيطاليا وألمانيا الغربية في نصف نهائي كأس العالم عام 1970 بمكسيكو سيتي، والتي انتهت بنتيجة أربعة أهداف لثلاثة لصالح إيطاليا طبعا ..

لو أن (أنفانتينو) تكرم علينا قليلا وخلع نظارة التاجر الشاطر الذي يفكر في الربح على حساب الجودة، سيفهم أننا منذ 48 سنة لم نشاهد مباراة رفيعة فنيا في مختلف المونديالات، فالزيادة من 24 إلى 32 قصمت ظهر لعبة كرة القدم فنيا، ثم تأتي حضرتك يا (أنفنتينو) لتطلق رصاصة الرحمة على المستوى الفني لبطولة كأس العالم بجرعة قاتلة، ثم تدعي زورا وبهتانا أنك تستهدف تكحيل البطولة، في حين أن كل الدلائل الفنية تقول : إنك عميتها بامتياز، روح يا شيخ.. منك لله ..!

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى