سينما يورجن كلوب.. البحث عن جوردان هندرسون

تحليل- أحمد مختار

لا يسجل كثيراً ولا يصنع مثل غيره، ليس نجم صف أول ولا حتى ثان، وحتى لا يمت بصلة لما يعرف بصديق البطل كمدخل عند الحديث عن مساعدي النجوم ولاعبي الوسط غير المشهورين إعلامياً.

الحقيقة أن جوردان هندرسون لن يظهر أبداً على “الأفيش”، ولن يفعل شيئا لكي يجبرك على المطالبة بوضعه إلى جوار المشاهير والمعروفين، لأنه باختصار شديد رجل له دور محدد يقوم به، لا يصنع المنظومة بل يتواجد داخلها، ومن الصعب أن يضع السؤال أو يقوم بابتكار شيء خارج المألوف.

هو الأستاذ الذي لا يخرج أبداً عن أسئلة المنهج، الممثل الملتزم إلى درجة قد تصل إلى الملل بالنص أو السكريبت، والطالب الذي لن يحرجك ولا يفاجئك ولا يستفزك ولا يحرجك، لكنه رغم كل ذلك يجب أن يتواجد ضمن قائمتك النهائية، من باب القيام بأمور لا يقدر عليها المميزون أو نجوم الصف الأول، بالإضافة أنه يفعلها ضامناً درجة النجاح المطلوبة، التي تعطيه تقديراً يسمح له بالمرور إلى الدور التالي.

انتشر مقطع فيديو شهير بعد مباراة إنجلترا وكرواتيا في نصف نهائي كأس العالم 2018، ظهر فيه جوردان هندرسون بصورة سيئة للغاية، كونه لاعب الارتكاز الدفاعي لمنتخب بلاده، أي لاعب المحور في المركز 6 الذي عرف بهذا الاسم لأنه اللاعب السادس في الملعب بعد الحارس ورباعي الدفاع، وفقاً لتقاليد وقواعد التكتيك القديمة.

بعيداً عن المسميات وأهميتها، هندرسون لاعب ارتكاز دفاعي محدود بصراحة، لديه “ديفوهات” عديدة فيما يخص تمركزه أثناء البناء من الخلف، تعامله مع الضغط العالي لمنافسي فريقه، وبالطبع تمريراته السيئة في وبين الخطوط، بالإضافة إلى صعوبة لعب الكرات البينية التي تحتاج إلى مهارة خاصة يتقنها ما يعرف لاعب الوسط الممرر أو “الديب لاينج”.

الحقيقة أن هندرسون لم يتحسن في هذا الشق بعد، حتى بعد عودته من المونديال الروسي إلى ملاعب البريمرليج من جديد، ولعبه مع يورجن كلوب كلاعب ارتكاز دفاعي في رسم 4-3-3، خلف الثنائي فينالدوم وجيمس ميلنر بداية الموسم الحالي، ليظهر وسط “الريدز” دون أي لمحة ابتكارية، مع قيامه فقط بمهام الركض والعدو يميناً ويساراً، من أجل التغطية خلف الأظهرة المتقدمة للأمام، والقيام بدور الافتكاك وقطع الكرات عوضاً عن ثلاثي الهجومي بالثلث الأخير.

مطالبات عديدة ليورجن كلوب بالاعتماد على البرازيلي فابينيو، وأصوات إعلامية وجماهيرية أوصت “نورمال وان” بإبعاد هندرسون بعض الشيء عن اللعب، خصوصاً أمام الفرق التي تدافع من الخلف بعدد كبير من اللاعبين، لتقل المساحات أمام ثلاثي الهجوم، وتزيد الحاجة أمام ارتكاز ممرر “ريجستا” عملاً بالمثل التكتيكي المعروف، A deep block is the lock, Regista is the KEY، أي عندما يكون هناك خط دفاع متأخر ومغلق، لاعب الوسط الريجستا هو مفتاحه.

كل شيء تغير بالنسبة لهندرسون في آخر 3-4 مباريات مع ليفربول، حيث ظهر بمستوى أفضل، سجل وصنع بنسبة أكثر نجاعة، وبالتأكيد أصبحت أرقامه أفضل على الصعيد الهجومي.

يمكن تفسير هذا التغيير المحوري فيما كتبه جوناثان ويلسون منذ أيام، حيث أكد بأن دور جوردان مع ليفربول تحول من المركز 6 إلى الركز 8، حيث لم يعد موجوداً أسفل دائرة المنتصف أمامه دفاعه، بل صعد خطوات للأمام لكي يكون أقرب إلى لاعب الوسط المساند، تاركاً الدور القديم لمن هو أجدر منه، للبرازيلي فابينيو.

جاء عبر الجارديان نصاً: “قبل عامين، أصدر المصور الألماني كريستيان فييلر كتاباً يضم لقطات استوديو للكلاب أثناء محاولته التقاط علاج مطاطي قذفه من أجلهم. انظر إلى تلك الصور وانظر إلى هندرسون في طلب الكرة. التعبير هو نفسه. التركيز نفسه ، الرغبة ذاتها ، نفس التساؤل المطلق للبقاء على قيد الحياة في عالم يمكن أن تسقط فيه هذه البهجة من السماء”.

نترك تحليل الصحيفة الإنجليزية جانباً ونعود إلى مباراة ليفربول وتشيلسي في أنفيلد، حيث حقق هندرسون أرقاماً مبهرة من خلال لعبه 20 تمريرة صحيحة بالثلث الهجومي الأخير، افتكاكه 6 كرات في نصف ملعب البلوز، صناعته فرصتي تسجيل، مع “أسيست” رائع لساديو ماني افتتح به نتيجة المباراة، رفقة 84 % دقة تمرير. كل هذه الإحصاءات عندما لعب كلاعب وسط بالمركز 8 في رسم 4-3-3 ضد فريق ساري.

لن يفيد هندرسون إذا تعلق الأمر بالتمرير من الخلف، الصناعة من وضعية صعبة، والتمركز بين قلبي الدفاع لفتح الملعب عرضياً كما يفعل غيره من لاعبي الوسط المجدفين، كذلك أيضاً هو بعيد بعض الشيء عن قدرات نجولو كانتي وقبله ماكيليلي فيما يتعلق بالقوة الدفاعية والإمكانات الفذة في العرقلة والحجز وخلافه، لكن قائد ليفربول الحالي لديه الطاقة المطلوبة، الالتزام المنشود، والأهم من كل ذلك التنفيذ الحرفي لما يطلبه مدربه بالحرف، دون زيادة/ ابتكار أو نقصان/ إهمال.

“هو أفضل مركز فعلياً لهندرسون”، هكذا اتفق جيمي كاراجر وجاري نيفيل في سهرة “MNF” على شبكة سكاي سبورتس، وأجد نفسي أوافقهما الرأي بشكل مؤكد، لأن هندرسون في آخر 3 مباريات قدم ربما عروضاً مميزة لم يقدمها في أول 25 مباراة من الموسم، والسبب بسيط وسهل ويسير، أنه تواجد في المركز 8 بالقرب من صلاح وأرنولد بدلاً من تمركزه القديم في المركز 6 أمام فان دايك ولوفرين.

باختصار شديد، كلوب أعطى الخبز لخبازه، فابينيو مميز في التمرير، قراءة اللعب، ضبط التحولات، فوضع البرازيلي كارتكاز دفاعي. جوردان في المقابل ضعيف في هذه الأمور، وقوي في الزيادة والضغط والسرعة ولعب دور قريب من البوكس، فتم وضعه في نصف ملعب المنافس.

أمام تشيلسي مثلاً، يخبرنا “ستاتس بومب” أن ليفربول قام بعمل رقم قياسي في عدد مرات الضغط داخل نصف ملعب الفريق اللندني على مدار الشوطين. الحقيقة أنها إحصائية لا تفاجئني، ليس لقوة كلوب في هذا المجال ولكن لأن 4-3-3 ساري متوقعة لدرجة الرتابة..

حيث أن الإيطالي لا يجري أي تعديلات في رسمه، إستراتيجيته، خطته، ليصر على الجمود التكتيكي الذي أحرجه كثيراً في ملاعب إنجلترا، وبالتالي نجح ليفربول في استغلال هفوات البنية التكتيكية لخصمه اللندني.

دور هندرسون كان محورياً في الهدفين، بعد تمركزه المثالي بين صلاح وأرنولد على اليمين، وتحركاته الصحيحة في القنوات الشاغرة بين الثنائي إيمرسون ودافيد لويز في دفاعات تشيلسي، لذلك استلم الكرة المقطوعة من ظهير البلوز وأرسل عرضية الهدف الأول لساديو ماني، ثم تحرك بذكاء في لعبة الشوط الثاني ليجبر لوفتيس شيك على الذهاب خلفه، مما خلق فراغ واضح أمام صلاح ليقطع من الطرف إلى العمق ويسدد في شباك كيبا.

في سينما داوود عبد السيد ستجد الكثير والكثير من الأحداث التي تجبرك على الفحص والتدقيق والتفكير والاتفاق والاختلاف بالتأكيد. من بين هذه النماذج فيلمه “البحث عن سيد مرزوق”، الذي يحكي قصة موظف بريء وساذج، يخرج في يوم إجازته ليلتقي بشخصيات غريبة منها صعلوك يرتدي ملابس شارلي شابلن، وشخص يدعى سيد مرزوق، ملياردير غريب الأطوار متعدد الوجوه..

شخصية مليئة بالتناقضات والغموض، يعشق الليل وجلسات المزاج ليضعه في حيرة مستمرة مع كثرة حكاويه ورواياته وقصصه التي لا تتوقف، لدرجة الشتات الذي يصيبه ويصيب المشاهد والمتابع طوال فترة العرض، كل هذا من أجل أن تفكر وتبحث معهم لكي تعرف حقيقة “سيد مرزوق”.

ورغم أن أوجه الاختلاف أكبر بمراحل من الشبه والاتفاق، إلا أن مسيرة هندرسون تصيبك بالحيرة والتناقض والإرهاق كلما بحثت داخلها، لتصطدم بلاعب بدأ مسيرته كجناح أيمن صريح، ثم لاعب وسط متقدم فـ “هولدينج” أمام الدفاع، وبعد ذلك مع براندن رودجرز في طريقة الليفر 4-2-3-1 علي اليمين قديماً.

هيندرسون أثناء اللعب يميل الي الوسط، ليسقط لوكاس “حينها” في الخلف أسفل دائرة المنتصف، ويصعد جيرارد قليلاً وأمامه علي الجانب الأخر “يسبقه ببعض الأمتار” يلعب جوردان كـ ريشة بين العمق والأطراف.

كل هذه الشخصيات والأدوار والمراكز لعبها هندرسون، كان فقيراً وضعيفاً وسيئاً في بعضها، مقبولاً وجيداً فقط في البعض الآخر، لكن ربما وصل إلى درجة “الجيد جداً” لأول مرة هذا الموسم عندما تحرر في نصف ملعب المنافسين، وتواجد أكثر في المركز 8 الهجومي بالقرب من الجناح ورأس الحربة الوهمي.

إنه المركز الذي جربه رودجرز سابقاً في مباراة ليفربول وسوانزي بـ 2015، ليعيده كلوب إليه بشكل أفضل في 2019، وكأنه يقول للجميع مع حركاته الغريبة والعجيبة أثناء المباريات، “لقد وجدتها” أخيراً!

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى