
تقرير- محمد العولقي
على عتبة الثالثة والثلاثين.. يقف البرغوث الأرجنتيني ليونيل ميسي قائد برشلونة الإسباني على مسافة بعيدة عن بقية نجوم مجرة كرة القدم، إذا كان لمجرة كرة القدم الحديثة أحد عشر كوكبا، فلا شك أن ميسي هو محور تلك المجرة، هو الوحيد الذي يقترب من الشمس مخلفا كواكب أخرى لا تجاريه ولا تباريه..
انتهى العقد الأول من الألفية الثالثة، كان خلالها ليونيل ميسي هو ملك القمة، لم يقف له الند للند سوى البرتغالي كريستيانو رونالدو ..
لميسي مميزاته، ومقوماته وعقليته وطريقته لا يشبهه لاعب آخر على الإطلاق، لم يتشبه بأي نجم أسطوري عرفه القرن الماضي، تماما مثلما أن رونالدو يختلف من كافة الوجوه عن ميسي في القوة البدنية والمرونة الجسدية وخفة التحول التدريجي نحو العمق..
انتهى العقد الأول بانتصار معنوي لميسي على غريمه التقليدي ومنافسه الوحيد رونالدو، انتصار خطير انتهى باستحواذ ميسي على الكرة الذهبية السادسة، فاضا الاشتباك مع رونالدو، انتصار وضع ميسي وحيدا يغرد في القمة الشماء وبفارق كرة ذهبية واحدة عن غريمه رونالدو، وبفارق شاسع وكبير عن نجوم آخرين، لعبوا دور العزول في ظل الصراع الشرس بين نجمي العقد الأول من الألفية الثالثة..

وكما أن ميسي سجل نقطة تفوق في سباق الكرة الذهبية، نجح رونالدو في رد صاع ميسي بصاع معنوي مهم، من خلال انتصاره الساحق على ميسي في سباق الفوز بلقب أسطورة دوري أبطال أوروبا خلال العقد الفارط..
كثيرون يرون ميسي أكثر تكاملا من رونالدو، وأكثر عقلانية في إدارة كفة المباريات بعيدا عن النزعة الذاتية، وهي ميزة ذكية تضع رونالدو في ورطة على مستوى التكامل التكتيكي والفني فرديا وجماعيا..
رونالدو على مرمى حجر من ربيعه الخامس والثلاثين، وهو سن عنق الزجاجة كما يسميه من يؤكدون أن للسن الكروي حدودا لا يمكن استثناء رونالدو من تلك القاعدة مهما تحدثنا عن كيمياء اللاعب وخصاله البيولوجية المثيرة للإعجاب..
ميسي هو الآخر يقف على حافة الثالثة والثلاثين، وهي سن النضوج الفكري العقلاني، سن يحفز بل ويجبر العقل والقلب للإصغاء لنداء الجسد، ترى ما “النيو لوك” الجديد الذي سيظهر به النجمان الكبيران مع بداية العقد الثاني للألفية الحالية ..؟ قطعا، من الصعوبة بمكان احتفاظ النجمين بنفس الطراوة البدنية والنفسية والقوة التكنيكية مهما تغزلنا في بيولوجيا رونالدو، ومهما وثقنا في قدرة هرمونات ميسي على إفراز المزيد من السحر في قدمه اليسرى البارعة..
من الصعوبة أيضا بقاء الصراع على نفس خط النار بين اللاعبين، خصوصا وقد اختلت الموازين بعض الشيء بعد مجازفة رونالدو بالانتقال إلى الكالشيو الصعب، مفضلا خوض تجربة شرسة محفوفة بالمخاطر مع يوفنتوس الإيطالي في رمق مسيرته الأخير..
يبدو هنا الفارق في التفكير بين رونالدو وميسي، الأول مقامر ومغامر لا يأبه لتحذيرات المنجمين، والثاني عقلاني، لا يندفع، لا يقدم على قيد أنملة في خطواته قبل أن يحسب مكاسبها قبل خسائرها، لهذا اختار البقاء ملكا في برشلونة على أن يغادر مملكته في تجربة قد تنسف كل عظمته في ملاعب القارة العجوز..
يقف العالم اليوم أمام المعركة الأخيرة بين قطبي الكرة الأرضية كرويا، وهي معركة ينظر لها المحايدون على أنها رسالة سلام، سيحرص من خلالها ميسي ورونالدو على الاستعانة بنيو لوك جديد يرفع من قيمتهما في مزاد الشعبية الجارفة ..
نيو لوك البقاء على القمة
من المؤكد أن شهية البحث عن الألقاب الجماعية والفردية ستظل قاعدة عند النجمين، والشغل الشاغل لكليهما، طالما بقيت الكرة تشعل في خلاياهما نار الغيرة، لكن الحقيقة التي لن تغيب عن بال اللاعبين أن الحفاظ على القمة أصعب بكثير من الوصول إليها..
وطالما أن كليهما دخل منطقة الإنهاك الكروي، فبدون شك سيكون البقاء لمن يعرف كيف يظهر بنيو لوك جديد يستوعب كل المؤثرات والمتغيرات الفسيولوجية والسيكولوجية..
الثابت أن الصراع بين ميسي ورونالدو سيستمر في الخفوت، ثم سينتهي تدريجيا مع حلول مونديال 2020 بدولة قطر، والسؤال، من سيبقى على القمة حتى ذلك الموعد القريب جدا ..؟
للإجابة على هذا السؤال يلزم الإبحار في عقلية كلا اللاعبين، من دون أن نلغي حقيقة أن الطموح والاستئثار بالقمة سيكونان وقود ذلك الصراع الذي بدأت جذوته تخفت منذ انتقال رونالدو إلى يوفنتوس الإيطالي قبل عامين، قطعا لن يكون جسد رونالدو بنفس القوة، ونفس القدرة على تحمل ضغط المباريات الكبيرة التي تحتاج إلى طاقة بدنية خارقة، لطالما ارتبطت بهذا اللاعب الذي يختلف في بنيانه الجسدي عن ميسي اختلافا كبيرا، بالمقابل يدرك ليونيل ميسي أن قوته الحقيقية في الاختراق والافتحام من الخلف لن تكون مع بداية العقد كما كانت في العقد الفارط..
إذا كانت الكرة تبدو ملتصقة بقدم ميسي اليسرى الساحرة، ففي الواقع أن هذه الميزة هي نتاج لعملية تناسق وتوازن بين قدرته الذهنية وطراوته البدنية المرتفعة وقدرة جسده على تلبية أوامر عقله، وبحسب النظريات الفيزيائية تبقي عملية الاحتفاظ بهذا التوازن بعد سن الثالثة والثلاثين عملية معقدة جدا، رغم أنها مع لاعب حاوي مثل ميسي ليست مستحيلة ..
أتفق تماما مع من يقول إن ميسي ورونالدو تخطيا منحنيات الجين ومسلمات البيولوجيا، فهما ربما أول وآخر لاعبين لم يصبهما أي سوء خطير ومؤثر طوال مشوار زاد عن 15 عاما، من حسن حظ رونالدو أن القدر قيض له منافسا صعب المراس يدفعه دائما للبحث عن أفضل الطرق وأرقى الوسائل للحفاظ على توهجه الدائم ..
ومن حسن طالع ميسي أن لاعبا مثل رونالدو حفز هرمون الغيرة على البقاء دائما مستيقظا لحماية مكتسبات القمة، ومن ثم بذل كل الجهد للتفوق على غريمه، حتى أن مدربه السابق بيب جوارديولا قال ذات مرة : ميسي يتدرب يوما مثل البغل..
مطاردة الرمق الأخير
في ثمانينات القرن الماضي، كنا صغارا جدا عندما كان الصراع مشتعلا وفي ذروته بين الفرنسي الأنيق ميشيل بلاتيني والأرجنتيني الأعجوبة دييغو مارادونا، لكنه بصراحة كان صراعا قصيرا جدا لم يدم سوى ثلاثة أعوام، انتهى بصعود ملك الشمس مارادونا إلى القمة منفردا، حين قرر الفرنسي التواري عن المشهد بعد أن أثبت مارادونا في نهائيات كأس العالم بالمكسيك أنه كل شيء..
صراع ميسي ورونالدو صراع فريد من نوعه، يختلف كما ونوعا وزمنا عن صراع أو سباق المائة متر بين مارادونا و بلاتيني، انحصرت الألقاب الفردية بينهما، فيما كان اللاعبون الآخرون يلعبون على ظهر البسيطة لمجرد القيام بدور الكومبارس والاكتفاء بمشاهدة السباق الحارق بين ميسي ورونالدو، بدا وكأن ميسي ورونالدو يلعبان لوحدهما على سطح القمر، لا منافس لهما على ملاعب الكرة الأرضية ولا هم يحزنون، هل كانت جينات ميسي تختلف عن جينات اللاعبين الآخرين ..؟، هل جاء هذا الأرجنتيني الذي صنع لبرشلونة مجدا كبيرا من كوكب آخر ..؟، هل فعلا رونالدو آلة زمنية تنقلك نحو المستقبل ..؟، هل كان نبتة مغايرة من خارج غابات المجرة؟..
في سن الخامسة والثلاثين يصغي كريستيانو رونالدو لصوت العقل قبل نداء الجسد، يبدو اليوم أكثر اقتناعا بضرورة التعاطي مع قاعدة السيرك الشهيرة في (والت ديزني) : توقف عن العرض عندما يطلب منك الجمهور المزيد ..!، ربما كان رونالدو يرى أن حلم الفوز بالكرة الذهبية السادسة مع يوفنتوس هذا الموسم صعب المنال، لكنه بدون شك يرى أن اختياره كأسطورة لدوري أبطال أوروبا متفوقا على غريمه ميسي بالذات مسك ختام لمشواره الذي سيتوقف على الأرجح بعد نهائيات أمم أوروبا هذا الصيف ..
رونالدو وصل إلى قناعة بأنه يعيش رمقه الأخير في ملاعب كرة القدم، ولأنه رجل ذكي وطموح لا يستغني عن الأضواء الصاخبة التي تطارده في حله وترحاله، فقد حدد بوصلة مستقبله بعد الاعتزال ..
يبدو رونالدو وجها سينمائيا جذابا، يمكنه أن يفتح من خلال السينما نافذة جديدة يهزم من خلالها ميسي على مستوى الجاذبية الشعبية، بالتأكيد سيكمل رونالدو عقده مع يوفنتوس، وقد خفت شهيته نحو حتمية الظفر مرة سادسة بدوري أبطال أوروبا، لكنه يأمل أن يدخل ميسي العد التنازلي، فاسحا المجال أمام مواهب كروية شابة تأمل إزاحة الطرفين عن ملعب المنافسات الفردية نهائيا..
هاجس ميسي وذكاء رونالدو
يختلف الوضع تماما في محيط ليونيل ميسي، فهو لازال يأمل – إن ظل في قمة بديهته الفنية وفي ذروة قريحته الفياضة – في تحقيق حلم الفوز بلقب كبير مع منتخب الأرجنتين..
إقامة بطولة كوبا أمريكا الاستثنائية في الأرجنتين الصيف القادم تمثل طموحا كبيرا للفوز باللقب القاري، هو أول من يعلم أن اتحاد كوبا أمريكا استحدث البطولة هذا العام لأجل عيني النجم الأرجنتيني ليونيل ميسي الذي دخل في جدال مع الاتحاد القاري، شكك من خلاله في ذمة مسؤوليه بعد الخسارة من البرازيل الصيف الماضي..
وفي حال فاز ميسي بكوبا أمريكا القادمة على أراضيه وأمام جمهوره، سيكون قد ردم الهوة الدولية مع رونالدو، عندها سيتمسك بفرصة المشاركة في مونديال قطر 2022، بحثا عن معجزة فردية ينهي من خلالها عقم تشبيهه بالعبقري دييجو مارادونا..
الخلاصة، ميسي سيرمي بكل ثقله في بطولة كوبا أمريكا لاقتناص آخر فرصة في البطولة القارية التي يفترض أنها تقام كل أربع سنوات، سيكون شعاره : التتويج أمام شعبه أو الانتحار الدولي أمام كل أنظار سكان البسيطة، في سن الثالثة والثلاثين لا يضع ميسي برشلونة أولوية قصوى بعدما أكل الأخضر واليابس، سيكون منتخب الأرجنتين هو هاجسه، ورهانه الأخير، إما كسر طوق مستواه المتذبذب والفوز ولو ببطولة هامشية، أو الخروج من الباب الصغير مطأطئ الرأس..
والسؤال الذي يفرض نفسه مع بداية العقد الجديد: أيهما يغادر الملاعب بأفضل صورة ممكنة بعيدا عن لحظات الانكسار ؟، رونالدو الذي لا يود أن يتجرع مرارة الخيبة في نهائيات أمم أوروبا، أم ميسي الذي يبدو مستعدا للتنازل عن كل كراته الذهبية الست في سبيل الفوز بلقب كبير مع راقصي التانجو، ينهي به مشواره الدولي بأقصى فرحة ممكنة ..؟!