
مأساة يكتبها- محمد العولقي
كل شيء في نادي إي سي ميلان الإيطالي حالك السواد، منذ أكثر من عشر سنوات وفريق كرة القدم في حالة غيبوبة، ما إن يخرج من حفرة حتى يسقط مجددا في قاع بئر عميق ليس لها قرار..
رحل إي سي ميلان (زمان) بكل حمولة أفراحه ولياليه الملاح، غادر زعيمه بيرلسكوني من الباب الصغير، فهربت النتائج من النافذة، هكذا يمكننا اختزال أزمة الروسنيري التي طالت واستطالت وجثمت على صدر المدينة الحالمة لأزيد من عقد من الزمان.
لم تعد تركيبة الميلان كما كانت، انتقل الفريق من مصنع الإنتاج الخاص، إلى مرحلة الاستيراد المضروب بأقل التكاليف، كما لو أن الميلان هان على كباره، وكما لو أن هناك مخططا شيطانيا يستهدف نقل الميلان من رفاهية زمان حين كان سيدا يؤمر فيطاع، إلى مرحلة يعيش فيها الميلان أبد الدهر بين الحفر، خادما ذليلا، ومن يهن يسهل الهوان عليه، كما قال شاعر قديم حكيم ..
زمان كان الروسنيري معبدا إيطاليا خالصا، لا يدخله إلا الكبار والعباقرة والقامات الكروية الرفيعة السامقة، أما اليوم فالميلان مأوى وملاذ لأشباه المواهب التي ترفع الضغط، لا يوجد في الفريق العظيم الذي دوخ أوروبا ونازع ريال مدريد التاج الأوروبي، مبدعا واحدا، ولا حتى نصف مبدع.
أضحى الفريق العملاق غريقا يتسول الرحمة من اليوفنتوس والإنتر و ونابولي، كان الميلان في أيام سادت ثم بادت عملاقا لا يهاب المعارك الكروية، الألقاب المحلية في جيبه دون نقاش، والتاج الأوروبي يخطب وده دون مواربة، سبحان مغير الأحوال، ميلان (الحاضر) فريق صغير في كل شيء، ليس من حقه أن يحلم في ظل القتامة الإدارية التي تحيط به إحاطة السوار بالمعصم ..

توقف الميلان عن النبض، لم يعد الروسنيري يحلق في سماوات البطولات العالية، إنه اليوم يسكن صاغرا في البقاع المنخفضة، يقتات على بقايا تاريخ، وفتات من موائد لئام لا يغني أو يسمن من جوع، وينام على تراث قديم لا يؤكل عيشا، تأملوا في تركيبة ميلان هذا الموسم، دققوا النظر في عمق صورة الروسنيري، راقبوا رحلة الفريق الذي ينحدر إلى الهاوية كجلمود صخر حطه السيل من عل ..
لا يوجد نجم يمكنك أن تشم فيه رائحة ميلان زمان، لا يوجد نصف مبدع يجبرك على شراء تذكرة لمشاهدته كما كان الحال أيام الثالوث الهولندي الرهيب، رود خوليت وماركو فان باستن وفرانك ريكارد، ثم أيام العز مع سافيسيفتتش وكافو وشيفشينكو ومالديني وباريزي، وأخيرا حبة الرمان ريكاردو كاكا، ماذا يحدث للميلان ..؟، لماذا طالت أزمته ..؟
وهل يمكن أن يستفيق قريبا من غيبوبة الجرح ..؟، هكذا يسأل الميلانيون فريقهم، وهم يشاهدون مصانع فيات السيدة العجوز تستقطب كل أسراب النجوم إلى اليوفنتوس، فيما يكتفي الميلان بالمشاهدة والخضوع لسطوة سيدة يقولون إنها عجوز، لكن الواقع أنها شابة لا تفقد نضارتها أبدا ..
الكهل وحافلة الميلان

يقف مشجع ميلاني أمام بوابة ستاد السان سيرو، يتأمل في صمت مطبق عدد الجماهير القليلة التي تستعد للدخول لمشاهدة واحدة من مباريات الميلان في الكالشيو، يطلق الرجل الكهل زفرة حارة وكأنها حمم تخرج من أعمق أعماقه، يحدق في تذكرته ثم يتذكر الأيام الخوالي.
تدمع عيناه وقد بلغ الحال بالميلان مبلغا مخيفا، يقبض على التذكرة بقوة وحرقة معا، ثم يلقي بها تحت قدميه، يدهسها في غضب، ثم يملأ رئتيه بهواء ميلان الذكريات وهو يهتف بحرقة: من فضلك يا بيرلسكوني، أريد الميلان حيا”، لم يبالغ منهم على شاكلة ذلك الكهل الذي يتعذب قلبه كلما شاهد ميلان اليوم وهو يتلقى الهزائم من فرق عادية، بطشت به بطشة العقاب لطائر بري خائر القوى ..
كلهم في ميلان ملوا من انتظار ميلان زمان، حيث كانت الانتصارات والميلان وجهين لعملة واحدة، لكن ميلان لا يتقدم قيد أنملة في مشوار استعادة جماهيره، مباراة يفرحهم وعشر مباريات يبكيهم، لا يبدو الميلان اليوم كسيحا على مستوى النتائج فحسب..
بل يبدو عقيما حتى في ترميم واجهة الفريق، كما لو أن اليأس استبد بإدارة الروسنيري، فهي لا تجد التمويل الكافي لإبرام الصفقات الكبرى أو حتى المتوسطة، فهل المسألة هنا تتعلق بالإفلاس المالي؟، أم أن ثمة أمورا سرية يهمها إبقاء أوضاع الفريق على ما هي عليه؟.
يمكنك بقليل من التأمل إدراك أن لإدارة الميلان عقلا في حجم حبة البازلاء، هذا الوصف يبدو مناسبا تماما وينطبق على مسيري الميلان، فهم عندما ضاقت بهم السبل في مصالحة جماهير الروسنيري الغاضبة من تفاهة الصفقات، سارعوا بجلب لاعب ميلاني قديم، حاولوا إحياء عظامه وهي رميم ..
الأمر هنا ولا شك يتعلق بالسويدي الهداف زلاتان إبراهيموفيتش، الكهل الذي دخل التاسعة والثلاثين قبل أيام، فكيف لكهل مهما تغنينا ببراعته زمان أن ينقذ فريقا من الطوفان؟، ما جدوى التعاقد مع لاعب بلغ مرحلة اليأس الكروي لنصف موسم؟، أين التخطيط الاستراتيجي ؟، أين عقلية تأمين المستقبل، بدلا من إبرام صفقة وقتية ينطبق عليها المثل ” أحييني اليوم وموتني غدا؟، ثم هل يمكن للميلانيين أن ينتابهم شعور بالأمان، ومن يقود حافلة الفريق كهل ويضع على قدميه لاعبين سطحيين، أقل ما يمكنك أن تصفهم بأنهم عاديون مثلي ومثلك ..؟
متى يفوز الميلان؟

إذا كان ميلان الأيام الخوالى ضيفا دائما على دوري أبطال أوروبا، فميلان اليوم يتمخض ولا يولد سوى فريق مشوه، منتهى أمله المشاركة في الدوري الأوروبي، حيث فرق النطيحة والمتردية وما أكل السبع.
هزائم الميلان في الدوري الإيطالي لم تعد خبرا أو سبقا يستحق أن يتصدر العناوين في مختلف وسائل الإعلام العالمية، أصبح الخبر الحقيقي الذي ينتظره العالم ويتلهف لمنحه المانشيت العريض أن الميلان فاز أخيرا، ولو على فريق صاعد بينه وبين الميلان تاريخيا مسافة تتجاوز بعد السماء عن الأرض.
نعم يبقى سؤال الساعة: متى يفوز الميلان ويغادر حيص بيص الهزائم التي روعت سكان مدينة ميلان؟، متى يستيقظ الميلان من نومه العميق ويلحق خسارة واحدة بجاره إنتر ميلان ؟، ربما تطول المسافات قبل أن يحقق الميلان أمنية استعادة الصدارة، ولو في مدينة ميلان فقط، لكن حتى هذا التطلع رغم صغره يبقى حلما بعيد المنال مع فريق لا يضم إلا لاعبين يتقنون التمثيل بسمعة ميلان زمان ..
بالتأكيد ليس هذا ذنبهم لأن إمكانياتهم وقدراتهم محدودة، وليس من حق جمهور الميلان مطالبتهم بتحقيق المعجزات الحية وعلى الهواء مباشرة، لكن الذنب كل الذنب يقع على عاتق إدارة لا يهمها متى يكبر الميلان، ولا كيف يخرج من شرنقة النتائج السلبية التي توقف القلوب ..
قبل بداية الموسم الحالي، قال عضو مؤثر في مجلس الإدارة: هدفنا هذا الموسم بلوغ المركز الرابع، ولو تحقق ذلك سنكون قد أنجزنا عملا جبارا، لا تندهشوا لأن هذا هو الواقع، فالفريق الحالي بتركيبته لن يتجاوز المركز السادس نظريا، ولا تضحكوا على بلية ذلك العضو رغم أن شرها يحفز بالفعل على الضحك، لكنه ضحك كالبكاء.
العالم كله يفتقد منذ عشر سنوات نكهة الميلان في دوري أبطال أوروبا، وهذا بالطبع ليس خطأ في نظام البطولة التي تستوعب من ثلاثة إلى أربعة فرق من الدوريات الكبرى في أوروبا، لكنه خطأ نهج إدارة الميلان، فهي إما متآمرة على الفريق لدواع سياسية، أو أنها بالفعل ورثت تركة كبيرة من المخالفات في اللعب المالي النظيف، كما يشاع هذه الأيام عن إدارة بيرلسكوني السابقة ..
نريد الميلان حيًّا..!

يقف ميلاني آخر على بقايا الميلان، يبكي تلك الأطلال التي صنعت من الروسنيري دولة عظمى في كرة القدم، يقول وهو يلوك تلك الذكريات الدفينة كغسالة أتوماتيكية: هنا كانت أسطورة الميلان الكروية، أسطورة من لحم ودم، لم تغب يوما عن ذاكرة هذه المدينة، لا يعرف المسيرون الحاليون أن الميلان هواء وخبز وماء، لا يعرفون أنه باختصار حياة مدينة.
لطالما حلم توأم مدينة ميلان نادي الإنتر، ولو بربع من سطوة وإنجازات جاره الروسنيري، ولطالما كان متنفذوه يحلمون يوما بتجريد المدينة من رمزها، ربما ربحوا اليوم جانبا من معركة الزعامة، لكنهم أبدا لم يكسبوا المعركة قط مع الميلان، مهما تدثر الإنتر بلحاف السطوة المالية ومؤثرات أخرى تسعى إلى تركيع الميلان ومسحه من على خريطة الكرة الإيطالية ..
يقول مشجع ميلاني مهووس بالماضي القريب: “لن أذهب بعد اليوم إلى سان سيرو لمشاهدة فريق لا يمت لنا بصلة، ثم لماذا أقطع تذكرة ثم أحظى بمشاهدة فريق ميت تماما؟”
يزوي ذلك الرجل حاجبيه في غضب وهو يضيف: “لن أذهب إلى سان سيرو إلا إذا عاد الميلان إلى الحياة”، الحقيقة ليس الميلانيون وحدهم من يريدون الميلان حيا من جديد، بل إن محبي وعشاق النادي حول العالم يقفون على أطراف أصابعهم وأعصابهم، وهم يرددون خلف تلك المدينة التي فقدت مزاجها:
نريد الميلان حيا ..!
عن نفسي أشاطر الباكين على أطلال الروسنيري تلك الأمنية، على شرط ألا يكون لتلك الأمنية علاقة بشرط اليمامة بنت كليب، التي قالت لعمها الزير سالم بعد أن قتل جساس كليبا: عماه أريد أبي حيا .. هل تفهم ..؟!.