تقرير – أحمد مختار
“لا ينبغي حصر الحياة بمعيار الدولارات والسينت. أنا لا أجد أي شكوى بأنني زرعت والبعض الآخر قد جمع الثمار. فالرجل لا يأسف ويحزن إلا عندما يزرع ولا أحد يحصد”!
جوارديولا اختار مساعده الجديد بعد رحيل مايكل أرتيتا، خوانما ليو هو الرجل الختار، بعد رفض فينسنت كومباني الرحيل عن أندرلخت في الوقت الحالي، لذلك فإن معلم بيب القديم وصديقه الصدوق ورفيق دربه في المكسيك، سيكون الرجل الثاني في مانشستر سيتي خلال الموسم المقبل.
في عام 1996، واجه فريق برشلونة نظيره أوفييدو المتواضع على ملعب كارلوس تارتييري. ما كان يُنتظر أن يكون نزهةً تحوّل إلى معركة حامية الوطيس فاز بها برشلونة (4-2) بعد كثير من المعاناة. حيث أظهر الخصم شجاعة كبيرة جعلت بيب جوارديولا، الذي كان لا يزال لاعباً آنذاك، يقترب بإعجاب من غرفة خلع ملابس الفريق الخصم للتعرّف على ذلك المدرّب الجريء الذي لعب المباراة الندّ للندّ. كان اسمه خوان مانويل ليو، وهناك بدأت صداقة غيّرت عالم كرة القدم.
ورغم أنني كنت أفضل وجود تشافي ألونسو أو كومباني، من أجل أن يكون المساعد قريب من اللاعبين، مع انشغال جوارديولا المستمر بالأمور التكتيكية والخططية، وابتعاده بعض الشيء عن الجانب النفسي للاعبه، لكن في النهاية خوانما ليو اختيار مفهوم ومنطقي، من باب أنه يعرف جوارديولا جيدا وبيب يحفظه عن ظهر قلب.
كولياكان، سينالوا، المكسيك، هي إحدى أشهر مدن المكسيك، والتي ينحدر منها أسطورة ترويج المخدرات في الأميركتين، خواكين جوزمان الشهير بالشابو، إنها المنطقة التي مكث بها بيب جوارديولا في المكسيك، ستة أشهر فقط كانت كفيلة بتغيير مجرى حياته بالكامل!
هذا المكان عرف برياضة البيسبول وليس كرة القدم، لكن هناك فريق المدينة، دورادوس دي سينالوا، النادي الذي كان يعاني كثيرا عند قدوم بيب لكي يلعب معه، وكان وقتها في سن 35. قرار جوارديولا كان غريبا بحق وقتها، رجل فاز بكل شيء مع برشلونة، وصنع إسم مهم، وسافر إلى قطر وجنى أموال واضحة، إذن لماذا لا يستمر في الجزيرة العربية أو حتى يعود إلى موطن رأسه، ويقوم بالاستراحة ولو قليلا!؟
السر في صديق الرحلة، خوان مانويل ليو، الرجل الذي عرفه بيب منذ التسعينات، ويدرب في تلك الحقبة هذا الفريق بالمكسيك. بعد عام فقط واحد من الصعود إلى الدوري المكسيكي الممتاز، تعاقد دورادوس مع ليو، ووقتها أخبرهم بأن هناك فرصة كبيرة لجلب بيب جوارديولا كلاعب وكمساعد له خلال الفترة المقبلة.
في 2006، لعب ليو في المكسيك بخطة 4-3-3، لكنه كان يطبقها بطريقة مختلفة، تنقلب أثناء الاستحواذ إلى 3-4-3، لاعب الارتكاز يعود بين قلبي الدفاع، ويبتعد الأظهرة إلى الأمام، كانت لعبة جديدة بحق، وارتاح بيب كثيرا معها رغم إصاباته المتكررة.
علم ليو بيب أهمية التمركز في الكرة الحديثة، كيف تضع لاعبك في المكان الصحيح، وتجعل الخصم يلهث خلف الكرة لا اللاعب، تتحرك في هذا الإتجاه من أجل خلق فراغ في إتجاه آخر، حتى اقتنع الصديقان بأن الدفاع والهجوم شيء واحد، لا داعي أبدا لفصل جزء عن جزء.
#Positional Play
يقول ليّو عن التدريبات أنها أداة إتصال فعالة بين المدرب واللاعبين، وليس مجرد تأهيلات بدنية وفنية للفوز بالمباريات، لذلك لا بد أن يتعامل معها المدير الفني بقدر من الذكاء والحرص على تحويل الفريق إلى عائلة واحدة، تجمعها صلة أقوى من الجلد المنفوخ حتى يصل الجميع إلى مرحلة الكمال الكروي.
وإذا عدنا إلى فترة بارسا بيب، سنجد أن جوارديولا قام بعدة قرارات إستثنائية منذ قدومه، تخص الغداء الجماعي كل يوم في مطعم النادي، مع التنزه سوياً مرة بالأسبوع وإستضافة كل اللاعبين والجهاز المعاون لتناول الغداء شهرياً في أحد المطاعم الفاخرة بمدينة برشلونة، لذلك قال الفرنسي أبيدال حول هذا الفريق أنه عائلة حقيقية وليس مجرد مجموعة تلعب الكرة، وهذا سر رئيسي من أسرار نجاح أحد أعظم الفريق على مر التاريخ.
قام بيب بعد ذلك بالعمل إلى جوار خوانما، يشاهد مباريات المنافسين، وينقل ملاحظاته إلى مدربه، وعندما يتعرض لإصابة ويغيب عن المشاركة، كان يجلس بجوار الكوتش على الخط. يقول رئيس النادي المكسيكي عن ذلك، “لاعبون بالجملة صاروا مدربون بسبب شهرتهم، لكن بيب ليس كذلك، إنه بدأ من الأسفل، من أسفل الأسفل”، لأنه لم يبدأ كمدرب أبدا في برشلونة، بل كانت البداية الحقيقية مع فريق من أندية الوسط في المكسيك!
تذكرت ما قرأته في وقت سابق عبر مدونة Football Times عن مهاويس الحياة والاختراعات والكرة، وربط هذه الحبكة بمسيرة خوانما ليو، عبارة عن إبداع منقطع النظير.
بصراحة جعلني أقتنع أكثر بفلسفة هذا الرجل وطريقته في التفكير، أترككم مع افتتاحية المقال،
“من الصعب الحديث عن أي عبقري دون وصفه بكلمة مجذوب أو مهووس، لذلك لا غرابة من قصة تشارليز جودييز، مخترع المطاط، والرجل الذي له فضل عظيم على صناعة الإطارات، حتى يومنا هذا أحد أشهر الماركات العالمية في هذا المجال”.
هذا الرجل أفنى حياته في القرن التاسع عشر من أجل اختراعه الذي دفع من أجله كل ما يملك، المطاط والهواء والإطارات وهذا العالم المليء بالأسرار.
في كتابه “هوس نوبيل” لتشارليز سلاك، يصف الكاتب مأساة المخترع جوديير، 6 من أطفاله الـ 12 ماتوا دون أن يساعدهم وينقذهم، قضى معظم حياته في السجون بسبب المديونات وتراكمها.
حتى بعد أن أتم معظم اختراعه عام 1844، فوجيء بأن عالم آخر “هانكوك” توصل قبله بشهرين لشيء قريب وسجله أيضا. استفاد هانكوك من أبحاث جوديير وقام ببعض التعديلات ليحصل على الأفضلية والشهرة والمال وخلافه.
جوديير حول الأمر للمحكمة والقضايا لكنه لم يحصل على شيء، وبقى الوضع على ما هو عليه، ليحصل هانكوك على التقدير بينما يموت الآخر بعد سنوات مفلسا مريضا معدما لا يعرفه الكثيرون.
حب رجل مهووس إلى حياة من الفقر، إلا أن ينكر كنزه في نهاية المطاف من خلال ما يعتبره الكثيرون سرقة. ولكن لديه التفاؤل والموضوعية لنرى أن نجاحه لم يكن في النتيجة بل في “الفاكهة التي تجمعها الآخرون”.
في نظر جوديير النجاح غير قابل للقياس، لم يحصل على مال ولا شهرة إلا بعد موته، لكن نجاحه كان مفيدا للبشرية فيما بعد، لقد رمى الحجر الأول في المياه الراكدة،
هناك نوعان من الناس، أولئك الذين ينظرون إلى النجاح في النتائج والأمور الملموسة، بتحديد أكبر أولئك الذين يحاولون تحديد حجم النجاح وحصره في أمور معينة فقط، بينما هناك من يرى في الرحلة الإنجاز والنجاح، ولحسن حظنا أن خوانما ليو من النوع الثاني.
“لا ينبغي حصر الحياة بمعيار الدولارات والسينت. أنا لا أجد أي شكوى بأنني زرعت والبعض الآخر قد جمع الثمار. فالرجل لا يأسف ويحزن إلا عندما يزرع ولا أحد يحصد”!
لا يوجد فشل مطلق ولا نجاح وحيد، لا يوجد صح فقط وخطأ فقط، ولا أحد يملك الحقيقة المطلقة يا صديقي، لا أنا ولا أنت ولا من علمنا ولا من سيتعلم مننا، كلنا نجرب.
“الهدف في الرحلة، العملية، المشروع، العمل المبذول. في سباق ما، أنت الأول لأميال واميال، وقبل خطوات من الخط النهائي، وقعت. هل ستقول أيها الصحفي، أني فاشل ؟ لقد جريت بكل قوة طوال الطريق. الموضوع أكبر من أنك جيد اذا فزت، وسيء اذا خسرت”.
“النتيجة مجموعة من البيانات، أنت تناقش العملية وليس النتيجة النهائية، النتائج لا تُناقش. هل أنت تذهب الي الملعب لمدة تسعين دقيقة من اجل مشاهدة لوحة النتائج في نهاية المباراة ؟ أم لكي تشاهد المباراة نفسها”؟
“نحن نشاهد العملية أو المباراة وفي النهاية نحكم علي النتيجة فقط. تهاجم ما انتهى بشكل سيء، وليس ما جرى بشكل سيء”.
خوانما ليو.
“لن أعتزل قبل أن ألعب مع فريقه يدربه خوانما”، قال جوارديولا هذا التصريح قبيل إنتقاله إلى فريق دورادوس المكسيكي مع ليّو لمدة 6 أشهر، كلاعب ورفيق وصديق ومساعد تكتيكي له في المباريات، وخلال تلك الفترة قرر بيب رسمياً دخوله إلى عالم التدريب في المستقبل القريب.
وتمر السنوات والأجيال ليعود الثنائي معاً من جديد، لكن هذه المرة صار جوارديولا أشهر مدربي كرة القدم وأعلاهم أجراً وصيت وقيمة وحتى بطولات في السنوات الأخيرة، بينما ليو تحول إلى الساعد الأيمن له ومساعده الجديد في مانشستر سيتي، بعد رحيل مايكل أرتيتا، في انتظار هذه المغامرة بالموسم القادم.
تعليق واحد