تحليل / محمد العولقي
سقطت على رأس مدرب المنتخب الإنجليزي ساوثجيت هدايا من السماء في الليلة الأوروبية الكبيرة، لكن المدرب الشاب في النهائي لم يستغلها ضاربا بالحمض النووي لأفكار بيب جوارديولا عرض حائط ملعب ويمبلي بالعودة إلى طريقة والله زمان يا سلاحي ..
لم يكن ساوثجيت يحلم أن يتعزز العامل السيكولوجي بعامل مفاجئ استراتيجي آخر سقط من السماء كهدية لم تخطر على باله، ظهيره الأيسر لوك شو يضع إنجلترا في المقدمة في الدقيقة الثانية ، لكن يبدو أن هذا الهدف فاجأ ساوثجيت أكثر مما فاجأ مدرب منتخب إيطاليا روبرتو مانشيني ..
وقف ساوثجيت على خط التماس مكتوف اليدين لا يدري كيف يتعامل إيجابا مع تقدم منتخب بلاده غير المتوقع ، عاش حيرة من التخبط فعلى ما يبدو أن مدرب منتخب إنجلترا لم يكن مستعدا ذهنيا للتعاطي مع أي سيناريو لم يكن في حسبانه ..
منتخب إيطاليا بوعي و خبرة مدربه قبل لاعبيه امتص صدمة الهدف الأول ، و راح يبني خطته على ألا يستقبل هدفا ثانيا ، في وقت كان اللاعبون الإنجليز يبحثون عن تعليمات ساوثجيت .. كيف يتصرفون مع هذا الهدف ..؟ هل يلعبون بفكرة الاستحواذ أم الاعتماد على الكونتراتاك ..؟
من أهم أسس البناء الهجومي الجماعي التحركات الفردية ، تحرك اللاعبين بدون كرة يكون من عناصر التفوق من الناحية الاستراتيجية ، و تدوير الكرة كثيرا يصيب الخصم بالارتباك .. تلك فلسفة تكتيكية تقوم عليها شاكلة 3/5/2 و تنفيذ هذا الأسلوب التكتيكي البسيط يستلزم الدقة ثم السرعة في الأداء مع تنوع مهارات التمرير من القصير إلى الطويل .. إنه المزج بين إيقاع الكرة اللاتينية و سرعة اندفاع الكرة الأنجلوساكسونية ..
عندما فاجأ ساوثجيت كل المحللين أمام الدنمارك في نصف النهائي بفلسفة الاستحواذ و سرعة تغيير إيقاع اللعب و تنويعه من الرواقين إلى العمق أحسسنا أننا بالفعل أمام أنفاس كرة بيب جوارديولا ، كان أبرز ما لفت نظري في تلك الأمسية قدرة اللاعبين الإنجليز على التلون و تقمص الكرة اللاتينية من خلال :
التحرك التكتيكي في اتجاه اللاعب المستحوذ على الكرة لأجل استقبال تمريرة ناعمة و الهروب من شبح الرقابة
لاعب آخر يتحرك بعيدا عن حامل الكرة ليمنح المستحوذ مساحة في التمرير الدقيق دون مشاكل
التغيير المفاجئ في منسوب إيقاع اللعب مرة من الرواق و مرة من العمق و مرة عبر الكرات الرأسية المؤطرة التي برع فيها ماجواير و ستونز
لم يتعامل ساوثجيت مع النهائي بعقلانية و دراية ، لقد كان واثقا أن فريقه سيفوز في نهاية المطاف ، لكن هذا الفوز رسم له المدرب طريقا واحدا فقط ، الفوز بأية طريقة غير ركلات الترجيح ..
ارتبك سوثجيت كثيرا بتقدم فريقه بهدف لوك شو الجميل ، بدأ و كأن الحابل الفني قد اختلط بنابل رد الفعل ، كان الهدف اللعنة قد وضع ساوثجيت بين خيارين إما المضي قدما بحثا عن الهدف الثاني أو العودة للخلف للحفاظ على بيضة الديك ..
اضطربت خواطر ساوثجيت ولم يحسن قراءة واقع المباراة في شوط المدربين ، لقد عاد ليعتنق قتامة الكرة الأنجلوساكسونية القبيحة التي تعتمد على مبدأ اضرب و أجر ، شاهدنا لعبا انزراعيا هاما لا انفتاح فيه و لا تحركات فنية ..
على عكس ساوثجيت كان مانشيني يعرف ماذا يريد من المباراة ، لقد حاصر جميع الاحتمالات و تعامل معها دون خوف أو ارتباك ، فجاءت تبديلاته في الشوط الثاني لتشعل جذوة الاستحواذ ، وكان مانشيني ذكيا وهو يصاقر تكتيكيا و يمنح شاكلته 4/3/3 بعدها الانضباطي ، لذا كان المنتخب الإيطالي يهاجم بوعي و يدافع بصلابة و يغطي كل مساحات الملعب أمام منتخب متكتل يغيب عنه رد الفعل ..
كانت أمام ساوثجيت فرصة عمره ، ولو أنه راقب المنتخب الإيطالي جيدا و درس نوعية لاعبيه لاكتشف أن منتخب إسبانيا كاد يطيح به في الوقت الأصلي، و لأيقن أن منتخبا مثل النمسا خنق المنتخب الإيطالي و تفوق عليه جماعيا بفضل الاستحواذ على الكرة و تدويرها، كان على ساوثجيت جرجرة مانشيني إلى حرب بدنية بالدرجة الأولى لاستغلال معدل العمر المرتفع في خط دفاع إيطاليا بالذات بدلا من التخندق في الخلف دون غطاء تكتيكي واضح ..
المنتخب الإيطالي ينفر تماما أمام المنتخب الذي يستحوذ و يمارس عملية التدوير بتقارب الخطوط ، لكنه عندما يواجه خصما لا يستحوذ و يعتمد على الكرات البالونية يركب المباراة و يسيرها كما يشتهي ..
مارس مانشيني ثعلبية حقيقية في العودة للمباراة في الشوط الثاني، ولم يكن هدف بانوتشي إلا دليلا قاطعا على ضياع الإنجليز و تحللهم نفسيا و ذهنيا، هذا لان الخطأ التكتيكي الذي ارتكبه ساوثجيت بالعودة إلى زمن التكتل الكلي في الدفاع كان بالفعل بمثابة مسمار جحا ..
ساوثجيت أمات طفرة الاستحواذ و للأسف أنه عندما راهن على أسلحته لم يجد فيها سلاحا واحدا يتناسب مع أنجلوساكسونية أفكاره العتيقة .. ماوت مثلا كان بعيدا عن المساندة الهجومية، و هاري كين كان يدافع، و رحيم أستيرلنج بالغ في مسرحيات السقوط عمال على بطال ، فلا عمق يتحرك بوعي للضغط على الكهلين كيليني و بانوتشي و لا رواق يقتحم ..
مانشيني و لكي يفرغ المنتخب الإنجليزي من محتواه في الشوط الثاني لعب بخط وسط رباعي على شكل ماسة هندسية لها الأبعاد التالية :
جورجينيو في العمق يضغط ليمنح حرية التقدم للظهيرين جيوفاني دي لورينزو يمينا و إيمرسون بالمييري يسارا .. لقد أدى جورجينيو دور لاعب محور الارتكاز ببراعة ، فأصبح يمتلك زمام حماية اللعب من الخلف و تسريعه من الأمام ..
ماركو فيراتي و نيكولا باريلا يساندان ثلاثي الهجوم إنسيني و فيديريكو كييزا و شيرو ايموبيلي و يصنعان لهم العمق الهجومي ببساطة،
هذا الانتشار الحر في غياب الضغط الكلي على البناء الإيطالي خلق استخواذا مضمونا بشكل أو بآخر مع تغيير مواقف اللعب ، فهذا الانتشار العرضي خلق توزيعا نجم عنه خيارات كثيرة للتمرير بمختلف أنواعه فمثلا :
ماركو فيراتي كان يمرر في العمق و يمنح كييزا فرصة التوغل القطري، في حين يؤدي ايموبيلي دور سحب ماجواير و ستونس و واركر إلى الخلف، فينفتح العمق على مصراعيه في غياب لاعب الوسط الإنجليزي الهدام في محور الوسط ، ففيلبس و ديكلان رايس في وضع متأخر لا يسمح بتكسير جبهة إنسيني و فيراتي و كييزا و هو ما أدى إلى عزل رحيم ستيرلنج تماما عن كين و ماوت ..
لقد اتخذ مانشيني قرارا تكتيكيا حاسما يقضي بتوسيع جبهة الهجوم لتكسير الروابط الدفاعية الإنجليزية التي بناها ساوثجيت في لحظة إفلاس تكتيكي ، وكان هدف مانشيني من توسيع جبهة الهجوم سحب الدفاع الإنجليزي المتكتل عرضيا لإيجاد المساحات البينية ثم حرية توزيع اللعب على الرواقين و هذا الأسلوب مكن المنتخب الإيطالي من استخدام العرضيات بأنواعها لخلق فوضى خلاقة في عمق الدفاع الإنجليزي، و بهذه الطريقة تمكن المدافع العملاق بانوتشي من تسجيل هدف التعادل بمساهمة فعالة من ماركو فيراتي ..
حقيقة أحسن مانشيني قراءة نوايا المنتخب الإنجليزي ، فحتى عندما انتعش المنتخب الإنجليزي في الشوط الأول بوجود ووكر كقطب دفاعي على اليمين مهمته دعم جبهة تريبير بالإضافة إلى الدعم الذي تلقاه الدفاع من ثنائي الوسط رايس و فيليبس إلا أن تلك الانتعاشة فترت بعد ذلك فوجد فيليبس بالذات صعوبة في ترويض الأسلوب، فعابه الاستعجال في نقل الكرات للأمام بدلا من التروي في بناء الهجمات ..
لقد حاول ساوثجيت تكحيل منتخب بلاده بالعودة إلى كلاسيكيات الشاكلة 4/3/3 بنزول بوكايو ساكا بدلا عن تريبيير الضائع لكن شيئا لم يتغير و بقي مونت شاردا لا يدري كيف يستوعب هذا التغيير التكتيكي في شوط عانى فيه الإنجليز من الاختناق التمويني ومن ويلات توغلات كييزا و محاولات إنسيني الانسيابية ..
الفارق بين المنتخبين الإيطالي و الإنجليزي في نهائي ويمبلي يمكن قراءته في تفكير المدربين مانشيني و ساوثجيت ، الأول وضع سيناريو محدد بعد تسجيل هدف التعادل، و الثاني ضاع في نفق الحسابات الخاطئة ..
نجح مانشيني في تسيير الشوطين الإضافيين على حسب سيناريو مرسوم يقوده إلى ركلات الترجيح ، و لقد كان واضحا أن المدرب الإيطالي جهز لاعبيه لهذه المهمة و كان مستعدا لها، بعكس ساوثجيت الذي لم يضع في حسبانه هذا السيناريو، فكان دخول لاعبين مثل راشفورد و سانشو و ساكا لتنفيذ ركلات الترجيح إيذانا بضياع اللاعبين ذهنيا في الاختبار الرهيب ..
فاز المنتخب الإيطالي أخيرا بلقب طال انتظاره ، و كالعادة ففي الوقت الذي لم يكن فيه الأزوري مرشحا بقوة للقب نجده سار بمنتهى الهدوء و الثقة إلى أن نال مبتغاه ، و للأمانة يستحق المنتخب الإيطالي هذا التتويج لأنه بالفعل تجاوز مسارا صعبا و نجح في تجاوز كبيري أوروبا بلجيكا و إسبانيا و أخيرا إنجلترا ، أما منتخب إنجلترا فلم يكن مساره صعبا ، فهو لم يواجه منافسا قويا سوى المنتخب الألماني، و عندما جاء التأكيد أمام الطليان خرج مدحورا دون لقب و الحجة في ذلك على ركلات التجريح كما أسميها من زمان ، لكن الأهم أن المنتخب الإنجليزي فوت على نفسه فرصة عمره، فمثل هذه اللحظة قد لا تتكرر إلا كل خمسين عاما و ساوثجيت أول من يعلم أنه عماها بحجة تكحيلها ..!