كيف انهارت كرة القدم الحديثة بشكل لا يمكن إصلاحه؟ (الجزء الأول)

تقرير – محمد يوسف

“نحن لا نريد كثير من الأندية أمثال ليستر سيتي. تاريخ كرة القدم يخبرنا أن المشجعين يحبون فوز الأندية الكُبرى، ربما كانت بعض الإثارة وعدم إمكانية التنبؤ بالنتائج أمر جيد، لكن دوري بهذا القدر من الديمقراطية أمر سيء بالنسبة للمكاسب والأعمال التجارية”.

كانت هذه كلمات أحد مسؤولي الأندية الست الكُبرى في الدوري الإنجليزي الممتاز، في حديثه مع مجموعة من رجال الأعمال في أحد فنادق لندن الفاخرة.

أعمال من تحديداً التي سوف تتضرر؟ ولماذا يُنظر إلى كرة القدم بهذه الطريقة؟ إجابات هذه الأسئلة تقع ضمن أكبر مشاكل اللعبة حالياً.

لا يجب أن يقلق ذلك المسؤول كثيراً، لأن الرياضة بأكملها الآن، وبشكل متزايد، أصبحت مُجهزة بحيث أن حالات مثل فوز ليستر سيتي بالدوري تقترب من المستحيل، حيث يمكن لنادٍ من خارج أندية النخبة المالية أن يحقق لقباً كبيراً. ولهذا كانت الاحتمالات في موسم 2015-16 بعيدة للغاية، وقصة ليستر سيتي كانت استثنائية جداً.

احتفالات ليستر سيتي بالفوز بالدوري الإنجليزي

تأثير الأندية الخارقة على اللعبة

لا تدع أحداً يخبرك، كما أصر رئيس ريال مدريد السابق رامون كالديرون في تصريحه إلى جريدة الإندبندنت أن: “كرة القدم كانت دائماً على هذه الحال”.

إنه مخطئ، فلم تكن كرة القدم بهذا الشكل في الماضي؛ فكل المقاييس تشير إلى أنها في مستوى أسوأ بكثير من أي وقت مضى، وأن الوضع يزداد سوءاً، ويهدد بأن يصبح غير قابل للإصلاح.

كما سيكشف لك هذا التقرير، دخول الرأسمالية المُفرطة بدون رقابة إلى عالم كرة القدم خلق تفاوتاً مالياً متزايداً، وهو يدمر عدم إمكانية التنبؤ بالنتائج في اللعبة. لا يتعلق الأمر بمجرد التنبؤ بفوز الأندية الكبرى كالمعتاد، كما هو الحال دائماً، ولكنه حول مجموعة صغيرة من الأندية فاحشة الثراء “الأندية السوبر”، والتي أصبحت في مستوى مادي منفصل عن البقية، مما أدى إلى فوزها بمباريات أكثر، بأهداف أكثر، لتكسر أرقاماً قياسيةً أكثر.

تسبب هذه الأندية الخارقة تأثيراً هائلاً في اللعبة، لدرجة أنها تحول مسار الرياضة بالكامل.

نتج هذا من انفجار الأموال داخل اللعبة، والذي يعني أنك تحتاج إلى حد أدنى من الإيرادات السنوية (revenue)، التي وصلت إلى 400 مليون يورو هذا العام، لتبدأ حتى في المنافسة. وعلى جانب آخر، عندما تحاول أندية مثل مانشستر سيتي وليفربول أن تضاعف هذه الإيرادات، فإن التفاوت يظهر بشكل أوضح، والفجوة تتسع أكثر وأكثر في أرض الملعب مع الفرق الأقل. ولهذا نرى الآن تحطم كثير من الأرقام القياسية التاريخية موسم بعد الآخر.

في العقد الماضي وحده، والذي يمثل النهضة الحقيقية للأندية الخارقة بجانب الزيادة الهائلة في الأموال، شاهدنا: برشلونة يحقق الثلاثية مرة أخرى، بايرن ميونخ وإنتر ميلان يحققا الثلاثية للمرة الأولى، ريال مدريد يحقق دوري الأبطال ثلاثة أعوام متتالية لأول مرة منذ 42 عاماً، أول مواسم في إيطاليا إسبانيا وإنجلترا تشهد الوصول إلى 100 نقطة.

تتويج ريال مدريد بدوري أبطال أوروبا عام 2018، للمرة الثالثة على التوالي

معظم هذه الإنجازات كانت تبدو مستحيلة على مدار العقود الماضية، ولكنها حدثت الآن تقريباً في نفس التوقيت من العقد الماضي، مع إمكانية تحطيم المزيد من الأرقام القياسية في المستقبل. ولا داعي للقول إن من حطم كل هذه الأرقام كانت الأندية الأغنى في دورياتها. لأن تركيز المال في مكان واحد أدى إلى تركيز الجودة وبالتالي إلى تركيز النجاح في هذا المكان.

لا يعني هذا عدم وجود بعض الأمور الاستثنائية، مثل المواسم التي يُعانى فيها مؤخراً مانشستر يونايتد أو أرسنال، أو الفوز غير المتوقع بالبطولة لأندية مثل ليستر سيتي؛ فما دام يدخل العامل البشري في العملية، فبالتأكيد سيكون هناك بعض التقلبات، لكنها تظل استثناءات وليست القاعدة.

تزايد المخاوف

أثار رئيس الاتحاد الأوروبي لكرة القدم، ألكسندر سفيرين، المخاوف حول خطورة المسألة في مقدمة التقرير السنوي للاتحاد الأوروبي لعام 2020 والمتعلق بوضع المعايير.

بينما تحدث خافيير تيباس، رئيس رابطة الدوري الإسباني لكرة القدم (لا ليجا)، بعبارات أكثر خطورة: “إذا لم نُصلح تلك المشكلة، ففي غضون سنوات قليلة سوف تنهار صناعة كرة القدم”.

وحتى أن هذه المشكلة الجوهرية تسبب تراكم العديد من القضايا الجارية الأخرى، مثل الهشاشة المالية للأندية خارج أندية النخبة، والتوتر الناتج بين الأندية الخارقة والبقية، والتوتر بين بطولات الدوري المختلفة، والتوتر بين الاتحاد الأوروبي (يويفا) والاتحاد الدولي (فيفا).

كما كانت مشكلة التفاوت المالي في صلب المناقشات الجارية حول هيكل كرة القدم، كما يذكر أحد المسؤولين: “يجب أن نوقف هذا الاتجاه الجديد الآن. لأن الفجوة تزداد اتساعاً بشكل مضاعف كل موسم، ويمكننا أن نسبب تدمير النظام الإيكولوجي العالمي لكرة القدم”.

هذا “النظام الإيكولوجي” لكرة القدم متوازن الآن فيما يتعلق بالصناعة والأعمال، ولكنه بعيد عن توازن طبيعة كرة القدم نفسها، وكيف تُلعب في الواقع. وهذا ما يجب فهمه فيما يتعلق بعدم إمكانية التنبؤ بالنتائج، والتي تنهار بسبب كل تلك الأموال.

كرة القدم كانت دائماً اللعبة التي يمكن لأي شخص أن يلعبها، والمباريات يمكن لأي شخص أن يفوز بها. وقد تُرجم هذا المفهوم إلى نتائج أوسع خلال أغلب تاريخ اللعبة.

كرة القدم، كما قال يوهان كروف ذات مرة، هي “لعبة الأخطاء، والفائز هو من يرتكب العدد الأقل منها”، وهنا تقع إمكانية عدم التنبؤ بالنتائج. وهذا تحديداً ما تدمره الرأسمالية المُفرطة.

وقد بلغت مجموعة من أقوى 11 نادي حجماً عالمياً هائلاً، تقل فيه احتمالات وقوع الأخطاء للحد الأدنى. هذه الأندية الكُبرى الآن أصبحت وحوش الأموال الضخمة.

بسبب هيكل الرياضة نفسه، فإن الشعبية العالمية الهائلة لكرة القدم تساهم في توجيه المزيد والمزيد من الموارد إلى مجموعة صغيرة من الأندية، لأن تلك الأندية هي الوحيدة التي تملك الوصول إلى أقصى قدر من الاستفادة من هذا الوضع. لم تصبح أندية الـ 1%، بل الـ 0.01%.

ليس مجرد وجود المال هو ما يضمن النجاح، ولكن الكثير من المال، في عام 2020 نحو 400 مليون يورو، هو الشرط الوحيد لتتمكن حتى من التنافس.

إيرادات الأندية الخارقة

الأموال كانت هي الفارق الأكبر

من أجل أن نفهم حجم ومدى التحول في اللعبة، علينا أن نعود بالزمن إلى ثمانينيات القرن الماضي، عندما بدأت العمليات التي أدت إلى هذا الوضع. فريق ليفربول القوي كان يسيطر على اللعبة حينها، لكنها كانت هيمنة طبيعية أكثر مما هي الآن، حيث لم يكن هناك ما يكفي من الأموال في اللعبة لتدخل في معادلة السيطرة.

مثلاً، كانت صفقة حقوق نقل البث التلفزيوني لدوري الدرجة الأولى الإنجليزي عام 1982 تساوي فقط 5.2 مليون جنيه إسترليني، وإجمالي حقوق البث الدولية كانت 50 ألف جنيه إسترليني فحسب قادمة من الدول الإسكندنافية. بينما كانت أجور لاعبي أعلى أندية الدوري أقل بثلاثة أضعاف من الأندية في أسفل القائمة، مما يعني أن لاعبين من الأعلى تقاضياً للأجور في إنجلترا، مايكل روبنسون وستيف فوستر، لعبوا لفترة لأندية مثل برايتون.

وهو ما كان يعني أيضاً أن 13 نادياً يمكنهم الانتهاء في المراكز الأربعة الأولى في انجلترا، و12 نادياً في إسبانيا، وأن أندية مثل أستون فيلا، وستيوا بوخارست، وأيندهوفن، وريد ستار بلجراد يمكنهم أن يفوزوا ببطولة كأس الاتحاد الاوروبي.

كرة القدم، في الواقع، كانت لا تزال صناعةً صغيرةً جداً، ولم يظهر بها أي شيء مثل عدم المساواة الحالية. وكان هناك قدر أكبر بكثير من التنقل والحركية داخل اللعبة. ولكن كان كل ذلك على الوشك التغيير بشكل جذري.

بعض الأرقام المجردة كافية لشرح السبب؛ مثلاً، مجموع حقوق البث التلفزيوني للدوري الإنجليزي للدورة الحالية 2019-22 تبلغ الآن 8.4 مليار جنيه إسترليني. ومجموع جوائز دوري أبطال أوروبا يساوي الآن 2.04 مليار يورو، بعد أن كان 583 مليون يورو فقط قبل 10 سنوات.

وبسبب مثل هذه الأرقام، تحولت إيرادات أندية مثل مانشستر يونايتد من 117 مليون جنيه إسترليني في بداية الألفية إلى 627.1 مليون في موسم 2018-19، وهو أحدث الأرقام المتاحة.

قبل عقدين من الزمن، كان الحجم المالي لأضخم الأندية يساوي الحجم المالي لمتاجر السوبر ماركت المحلية فحسب. ولكن حجم اللعبة قد تغير تماماً؛ وكما يذكر ديفيد جولدبلات في كتابه الرائع “عصر كرة القدم” أن: “الرياضة في أوروبا تحصد الآن إيرادات مالية أكثر من صناعة النشر الصحفي أو السينما في القارة بأكملها”.

الأموال كانت هي الفارق الأكبر. والمزيد من الأموال أدى ببساطة إلى مزيد من التفاوت بين الأندية.

 

الجزء الأول من تقرير خاص في صحيفة الإندبندنت

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى