موسم الهجرة إلى فضاء علي جاجارين..!

كتب: محمد العولقي

لم ألتق به يوما، لكني أعرفه عن ظهر قلب، هو لاعب القرن في السودان بلا منازع ، بسط نفوذ نجوميته و بساط إنسانيته على كل قلوب السودانيين على امتداد مساحة مليون كيلو متر مربع ..

هو الدبلوماسي الذي يستطيع أن يدخل مع عباقرة سلكه 360 جولة على كأس النباهة فيسقطهم جميعا بالضربة القاضية ..
هو جناب السفير الأشيب الفودين ، الخطيب المفوه الذي يزن كلماته بأوقيات الزئبق ، مستمع جيد و متحدث فوق العادة ، قليل الكلام رغم أن مشاغله و أعماله تحتم الكلام آناء الليل و أطراف النهار ..

هو المحلل الكروي ، مقدم برامج رياضية يسحرك ببساطة لغته ، و يدهشك بغليانه الفكري ، صاحب آراء جريئة و مواقف صريحة لا تحتمل التلاعب بالألوان ، الأبيض عنده أبيض ، و الأسود أسود ، يكره المنطقة الرمادية، ودائما حجته في الطرح دامغة وليست غامقة ..

إنه جاجارين كما يكتبه المشارقة، و غاغارين كما يكتبه المغاربة ..

بالطبع جاجارين أو غاغارين الذي أقصده بهذا الثناء الباذخ، ليس ذلك الروسي الأنيق يوري جاجارين رائد الفضاء الذي كان أول من سبر أغوار السماء في رحلته التي عاد منها في حقبة الستينات من القرن الماضي بطلا أسطوريا ، قبل أن يموت و تطلع روحه وتخبطها سيارة على رأي الصعايدة الذين وصلوا ..

محور مقالتي الفضفاضة هنا هو علي جاجارين الكوكب السوداني السيار الذي يدور في فلكه الهلال ، الهداف التاريخي المستحيل للكرة السودانية بكل حمولتها و إرثها التاريخي الطويل كليل امرئ القيس ..

ثمة أشخاص يعاد إنتاج سيرتهم ، يجبرونك على قراءة عناوين من سيرتهم في زمن الجدب الرياضي الذي نعيشه هذه الأيام في ظل جائحة كورونا ..

من يكتب تاريخ علي جاجارين المتشعب بالغ التناقض بوجوهه المختلفة التي يصعب أدلجتها أو احتوائها في مقالة واحدة ..؟
هذا السؤال طار إلى رأسي بنفس سرعة علي جاجارين في الملاعب، و أنا أقتفي أثر سيرة هذا السوداني الذي يصلح لأن يكون بطلا لرواية، ربما تتفوق من الناحية الدرامية على رواية أمير الرواية العربية الطيب صالح موسم الهجرة إلى الشمال ..

طلبت معونة ملك الكاميرا السوداني خفيف الظل أحمد الأمين ، حسبت أنه في الخرطوم ارتعش وربما أشفق علي و القلوب دائما عند بعضها، لأن الكتابة عن رجل في ورطة ناجحة مثل علي جاجارين مجازفة محفوفة بالمخاطر والكثير من المشاعر ..

على مشارف السبعين عاما .. لا يتوقف علي جاجارين عن ممارسة معشوقته ، هو يثبت لكل مترهل كسول أن السن ليس مقياسا للحياة ، لأنها لا تقاس بطول الأجل أو قصره ، لكنها تقاس بما يمكن للإنسان أن يكتبه على صفحاتها من أعمال خالدة، ثم يترك تقويمها لغيره ممن يتابعون مسيرته و سيرته ..

وعلي جاجارين يستحق أن يكون المواطن العربي الوحيد الذي يدخل بلدان وطني حبيبي الوطن الأكبر بلا فيزا وبلا جواز، ليس لأنه الغى الحدود الوهمية وهو يتألق وينقل تألقه إلى كل بيت عربي فقط طوال 14 عاما، ولكن لأن موازينه التي ثقلت تجعله دائما النموذج العربي و القدوة الحسنة التي تحتذي بها كل الأجيال ..

أثرى ملاعب السودان فنا رفيعا، أدمى الأيادي و الحناجر تصفيقا و هتافا، وكان نقطة التقاء بين جماهير الغريمين الهلال و المريخ ..

استعاره نادي النصر السعودي لمدة قصيرة لتسجيل اسمه بماء الذهب في البطولات السعودية ، فصرخ الأمير عبدالرحمن بن سعود طيب الله ثراه بعد إحراز بطولة كأس الملك ﻷول مرة في تاريخ النصر :

الهلال مجرد تابع للأرض ، أما النصر فقد أصبح كوكبا سيارا بفضل رجل الفضاء الكروي علي جاجارين ..

التقى به ذات يوم في الرياض مشجع هلالي متعصب ترجاه قائلا :

يا رجل الفضاء تذكر أنك هلالي، نتوسل إليك ألا تسجل في مرمانا و تخون العيش والملح والعشرة و الفانلة الزرقاء ..

كان من حسن حظ علي جاجارين وقتها أن الهلال خرج على يد الاتفاق ، وعندما تواجه مع النصر سجل علي جاجارين هدف الفوز الوحيد في مرمى الاتفاق ، فاعتبره مشجعو الهلال انتقاما حلو المذاق، ولو كان بألوان النصر و ليس الهلال ..

استقدم الأمير عبدالرحمن بن سعود علي جاجارين لمهمة الفوز بكأس الملك، إلى جانب العبقري الآخر مصطفى النقر ، قال يومها جاجارين لرئيس نادي النصر :

اللقب في جيبك .. ضع في بطنك كل البطيخ الصيفي ..

ولم يكذب جاجارين خبرا، لقد أجهز على الشباب و عبث بشباكه أربع مرات، قبل أن يقصي الاتفاق بهدف من النوع الذي لا يشاهد كثيرا ، ثم اكتفى في المباراة النهائية بصناعة هدف الفوز بالبطولة في شباك أهلي جدة سجله توأمه مصطفى النقر..

زاوج بنجاح باهر بين الكرة و الدراسة ، وكما أنه أكل الجو في الأولى و أصبح الهداف التاريخي للهلال و المنتخب السوداني على بساط الجدارة و الاستحقاق ، كشف في الثانية عن عقلية علمية فذة نالت أعلى المراتب داخل السودان و خارجه ، كان بالفعل رجل باذخ النجاح كرويا و علميا ..

كان في عز مجده الذهبي عندما اقتحم السلك الدبلوماسي لأول مرة عام 1977 ، فقد كان في سن الثامنة والعشرين عاما عندما عمل سكرتيرا عاما في وزارة الخارجية متمرجحا على حبال الدبلوماسية، ثم سفيرا في الإمارات العربية المتحدة بعد عشرين عاما ..

لف دول القارة الأفريقية مثل عمو فؤاد زنقة زنقة ، دار دار، لكنه لن ينسى أنه صنع ربيعا حقيقيا في ساحل العاج ، عندما استعرض قليلا من سحره الكروي مع فريق أسيك أبيدجان ..

بالطبع نجومية علي جاجارين ونبوغه الفكري و عبقريته كمهاجم سريع كالومضة ليست محل خلاف ..

يمكنك ان تضيف إلى كل هذا الخليط و الطيف ذكاءه المتوقد كرأس الحية، الأمر الذي مكنه من الاحتفاظ بمكانته وشعبيته سودانيا و عربيا و قاريا، حتى بعد غادر ملاعب الكرة مع الأسف و الاحترام قبل أربعين عاما ..

حط الرحال في فرنسا وهو الرجل الذي يتكلم الفرنسية بطلاقة، لكأنه من مواليد برج إيفل ، وطار إلى سلطنة عمان وتركيا ومنها إلى الإمارات ثم الجزائر ..

كما أن نجوميته وخبرته الطويلة في ملاعب القارة السمراء فرضته عضوا في لجنة الخبراء بالاتحاد الأفريقي، إلى جانب عمالقة الكرة الأفريقية ..

وبين هذا و ذاك عمل نائبا للمندوب الدائم في الأمم المتحدة بنيويورك ، كان تفوقه اللغوي جواز مروره نحو تلك المكانة العالمية التي استحقها ، كما لو أنه رحالة فضائي من نوع خاص مغرم دائما بالتحليق وتعريف العالم بهوية السودان سلة خبز العرب العاربة و العرب المستعربة ..

وطوال رحلته الفضائية الطويلة حمل السودان في جوانحه أينما ذهب ، هذا هو وجعه اللانهائي ، نعم الحب هو الحب عند علي جاجارين، شوق للأرض الطيبة وولع و انتماء وقلبه دائما يهفو إلى رائحة الحبيب الأول، مهما نقل فؤاده هنا أو هناك سيظل السودان يسبح تحت مسمات ابن أم درمان ، شرب من ماء النيل ولم ينس لونه ولا طعمه بقي وفيا لجذوره الأصلية و كأنه مدينة سودانية دافئة كأم درمان التي نبتت فيها شجرته الطيبة ..

هو كذلك دائما يخبئ السودان تحت جلده ، مثل عاشق ولهان ذاهب في فيافي الدهشة بحثا عن ربيع الحكمة الفائضة عن الحاجة ..

هذا الشوق دفع معشوق الملايين إلى استعراض فصاحته و فطنته و ذكائه في دغدغة مشاعر الجماهير السودانية من خلال مناقشة الكثير من القضايا الرياضية الساخنة في برنامج تلفزيوني، ضاعف من نجوميته و شعبيته الجارفة ست مرات على الأقل ..

لن ينسى الهلاليون أن جاجارين كان خلف كل المنشآت الحديثة التي تم بناؤها عندما كان سكرتيرا للنادي ، وفي عهده تحول فريق كرة القدم إلى غول على الساحتين المحلية و الأفريقية ، حيث لعبت أفكاره الإدارية دورا كبيرا في نقل الهلال من عصر الهواية الماسخة إلى عصر الاحتراف الحقيقي ..

من فضلكم صفقوا معي للخبير الفضائي الكروي متعدد المهام علي جاجارين، الذي يبدو شابا في العشرينات من عمره، رغم أنه بحسبة العربان البليدة على حافة السبعين عاما ..!

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى