القميص الملعون ..!

كتب- محمد العولقي

على مقربة من ملعب تمارين نادي (أستون فيلا) الإنجليزي يتجمع صبية أمام البوابة استعدادا للاختبار الكروي في مدرسة النادي، يرقبون عن كثب ذلك الكهل ذا الشارب الأحمر الناري، وهو يضع رجلا فوق رجل، وبعينين ثاقبتين لم تفقدا بريقهما يغوص في أعمق أعماق الصبية واحدا تلو الآخر، وفي نفس واحد يهتف الصبية الصغار مبهورين: إنه (ستيف هودج)، ضحية القميص الملعون في مونديال المكسيك.

يشرد (ستيف هودج) بعيدا، وعقله يسترجع ذكرى هي الأسوأ سمعة في تاريخ بطولات كأس العالم، ثم يفتش في جواله عن تلك اللقطة الميلودرامية التي تسببت في امتلاكه لذلك القميص الملعون.

صبيحة الأحد، الثاني والعشرين من يونيو عام 1986، كان (ستيف هودج) يشعر بقلق وتوجس مبهمين، فبعد ساعات قليلة سيلتقي منتخبا الأرجنتين وإنجلترا على ستاد (أزتيك) العملاق فى ربع نهائي مونديال المكسيك، في مباراة حربية خيمت عليها آثار حرب (المالفيناس) الشهيرة بحرب جزر فوكلاند.

رغم أن (ستيف هودج) -وقتها كان لاعبا جديدا في صفوف نادي (أستون فيلا) الإنجليزي قادما من (نوتنجهام فورست) – نام ليلة المباراة نوما عميقا، إلا أن كابوس (دييغو مارادونا) ملهم الأرجنتين كان يقض مضجعه بقوة، لا لسبب شخصي، ولكن لأن المدرب (بوبي روبسون) طلب منه بالأمس رقابة فوق العادة لنجم الأرجنتين المذهل (مارادونا).

قبل أن يرتشف قهوة الصباح ويتناول الإفطار مع زملائه ذهب (ستيف هودج) إلى غرفة المدرب (بوبي روبسون)، وبدون مقدمات قال (هودج) لمدربه:

“لست أنا الرجل المناسب الذي عليه رقابة (مارادونا) كظله، لو أردت رأيي عليك بتجهيز فرقة كاملة من المشاة الأغوار تضيق الخناق على (مارادونا) وتبطل انطلاقاته الانسيابية والحلزونية، آسف يا مدربي لاعب واحد سيجعله (مارادونا) يبدو ساذجا وأضحوكة لمدرجات ملعب (أزتيك) العملاق”.

وقتها كان (روبسون) قد حسم أمره قبل نصيحة لاعب وسطه الدفاعي (هودج)، توصل إلى الوسيلة المناسبة من وجهة نظره طبعا: سنضع أمام مارادونا حقلا مغناطيسيا يتألف من أربعة إلى خمسة لاعبين، وكان هذا يعني أن يكون وسط منتخب إنجلترا المؤلف من: بيتر ريد وجلين هودل وجاري ستيفنز وبالطبع ستيف هودج هو ذلك المغناطيس الذي عليه دفن (مارادونا) حيا في ذلك الحقل.

وقتها شعر (هودج) لأول مرة بقليل من الارتياح، لقد تخلص كاهله من عبء مهمة عسيرة محفوفة بالمخاطر، لكن (ستيف هودج) حتى تلك اللحظة لم يكن يعلم أنه سيكون شريكا في أسوأ لقطة سيئة السمعة مع (مارادونا) بالذات.

عند الساعة الواحدة ظهرا بتوقيت المكسيك دخل المنتخبان المتنازعان سياسيا بسبب حرب (الفوكلاند) الشهيرة التي انتهت بهزيمة عسكرية مذلة للأرجنتين قبل أربع سنوات، ستاد (أزتيك)، وتحت حرارة لا تطاق بلغت أربعين درجة مئوية وشمس عمودية حارقة انطلقت المباراة بقيادة الحكم التونسي (علي بن ناصر).

كان (مارادونا) يرمق (هودج) بنظرة ساخرة، وقتها سرت قشعريرة في جسد لاعب (أستون فيلا)، لقد تذكر فجأة أنه واجه المارد الأرجنتيني في مباراة ذات طابع أوروبي، فقبل عامين التقى برشلونة الإسباني (فريق مارادونا) – قبل انتقاله بصفقة خرافية في ذلك الوقت لفرق نابولي الإيطالي – ونوتنجهام فورست (فريق هودج)، وقتها كان شاهدا على أعمال وأفعال مارادونا الخارقة، لقد كان يسخر من المدافعين ويجعلهم يبدون أمامه مجموعة من الدمى الساذجة.

كان ملعب (أزتيك) يطل على أهرامات ملوك الشمس، لم يكن التاريخ قد أضاف ملكا آخر لملوك الشمس على الأقل في الشوط الأول الذي انتهى بالبياض، مع بعض المشاكل التي سببها (مارادونا) بحركته الحلزونية التي لا توقف بالحسنى.

مائة ألف متفرج يصرخون في مدرجات ملعب (أزتيك) كان الزئير مخيفا إلى أبعد حد، كانت أسطوانات الأكسجين في انتظار لاعبي منتخب إنجلترا في غرفة الملابس، لم يدر المدرب (بريان روبسون) ما يقول في حضرة لاعبين خرجوا للتو من فرن ملتهب، لكنه استجمع ما تبقى له من أعصاب قائلا : حسنا لقد أوقفنا شيطان أزتيك شوطا كاملا، علينا أن نستعيد طراوة تركيزنا استعدادا لشوط الحسم..

حتى تلك اللحظة لم تكن بوادر ميلاد ملك جديد لشمس أزتيك قد ظهرت، لكن (ستيف هودج) كان موقنا أن المسألة بالنسبة لمارادونا مجرد وقت، من هنا قرر أن يحتاط أكثر وأن يكون آخر لاعب في نظرية الحقل الكهرومغناطيسي لصاحبها (بوبي روبسون)..

لم تمض سوى ست دقائق على انطلاقة الشوط الثاني، حينما انطلق الساحر (مارادونا) في حركة قطرية، منسلا من كماشة الحقل المغناطيسي نحو مشارف منطقة الجزاء، كانت مناورة بارعة ومفاجئة في نفس الوقت، لكن عندما شعر (مارادونا) أنه لن يفلت لوحده من ذلك الحقل الرهيب أرسل تمريرة هاتفية إلى خورخي فالدانو في العمق، بحثا عن مكالمة هاتفية كروية (هات وخذ).

كانت حركة (مارادونا) حتى هذه اللحظة تقليدية مكشوفة للدفاع الإنجليزي وحارسه العملاق بيتر شيلتون، غير أن (مارادونا) الماكر حول الاتجاه ليتوغل يسارا نحو حارس المرمى بيتر شيلتون، في نفس اللحظة التي ارتدت فيها الكرة من فالدانو.

وصلت الكرة الضالة نحو (ستيف هودج) على نحو شبه مريح في الجانب الأيسر، وقتها لم يكن هذا الأخير يعلم أن (مارادونا) قد توغل نحو منطقة الجزاء، أفلتت الكرة من فالدانو وارتدت أمام (هودج) بصورة شبه مثالية، ثم تهيأت الكرة على قدمه اليسرى، وقتها حسم هودج خياره بتحويل الكرة نحو حارس مرماه، في حركة كانت مألوفة لدى المدافعين قبل تعديل قانون المادة 12 عام 1992، وعندما أعاد (هودج) الكرة لحارس مرماه لم يتصور أنها ستحدث مشكلة، لأنه حينها لم يكن يعلم أن ملك الشمس الجديد قد توغل إلى العمق وكأنه يمتلك قرونا للاستشعار، ولم يكن يعلم أيضا أين يقف (مارادونا) بالضبط.

جزء من الثانية تلا تمريرة (هودج) لحارس مرماه، ثم تهادت الكرة داخل شباك الحارس بيتر شيلتون بطريقة غريبة ومريبة في نفس الوقت، قال (هودج) لنفسه وهو يرى الكرة تستقر داخل الشباك : يا إلهي ماذا فعلت ؟ فقد مرت ثانية واحدة بين تمريرتي ورؤية الكرة تعبر خط المرمى، رأيت كتلة من الشعر الأسود الكثيف، ثم تلاها تصادم قبل أن تدخل الكرة المرمى.

ويضيف هودج قائلا: “كان بعض لاعبينا يرفعون أيديهم في الهواء، بدا وكأن الأمر يتعلق بمخالفة ما، وفي غضون خمس ثوان ظهر (مارادونا) محتفلا أمام الراية الركنية، وهو يطلب من زملائه المزيد من القبلات، عرفت عندها أن الهدف قد احتسب..

تجمع لاعبو منتخب إنجلترا حول الحكم التونسي علي بن ناصر وهم يقسمون أن (مارادونا) أدخل الكرة بقبضة يده اليمنى عندما ارتقى كقافز زانة مع الحارس الطويل بيتر شيلتون، ولم يكن الحكم ليأبه للاحتجاج الإنجليزي، لأن رجل الراية أشار إلى منتصف الملعب، وانتهى الأمر بالنسبة للاعب الوسط (ستيف هودج) الذي كان وقتها أصغر من (مارادونا) بعامين.

انتهت تلك المباراة بفوز الأرجنتين بهدفي مارادونا مقابل هدف شرفي لجاري لينيكر، كان الهدف الثاني الذي سجله مارادونا مذهلا بحق، عندما اجتاز أربعين مترا في لمح البصر متجاوزا كل من قابله بدءا بهودج نفسه وانتهاء بالحارس التعيس بيتر شيلتون، هدف إعجازي يجعل المشلول يمشي على قدميه

وبينما كان (هودج) يمضي نحو غرف الملابس وحيدا، وجد نفسه وجها لوجه مع (مارادونا)، تقدم منه هذا الأخير وهو يتلو دعاء دينيا على ما يبدو، ثم طلب (هودج) قميص (مارادونا)، فأعطاه إياه في الممر، كان قميص ملك الشمس بالنسبة للإنجليزي (ستيف هودج) تعويضا معنويا عن خسارة المباراة الملتهبة.

وما إن شاهد زملاء (هودج) قميص (مارادونا) بحوزة زميلهم حتى هاجوا وماجوا وهم يؤنبونه، لأنه سيحتفظ بقميص قشاش أجهض حلم الإنجليز في ذلك المونديال، ثم انفجر (هودج) غضبا عندما شاهد حيلة (مارادونا) على حين غفلة من الحكم، لكن هودج لم يفكر في التخلص من قميص ملك الشمس، بل إنه أصر على الاحتفاظ به في دولابه، وهو يقسم أن لعنة الهرم الشمسي ستصيب الكرة الأرجنتينية في مقتل.

وحتى عندما أطلق هودج تلك النبوءة أمام زملائه لم يكن يعلم أن لعنة ذلك القميص ستبقى خالدة يتوارثها الإنجليز أبا عن جد، ويحتفلون بتلك اللقطة السيئة كلما حل يوم الثاني والعشرين من يونيو ..!

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى