تقرير- محمد عصام
لحسن طالعه، استطاع “روري سميث” الصحفي في جريدة “نيويورك تايمز” أن يجد خانة له في جدول أعمال المدير الرياضي الشهير لإشبيلية “رامون رودريجيز فيرديخو” أو المعروف باسم “مونشي”.
لم يدم اللقاء سوى نصف ساعة، وهي فترة ما بين انتهاء أحد اجتماعات “مونتشي” وبداية اجتماع آخر، ولم تكن تلك الثلاثين دقيقة سوى فترة راحة لتناول العشاء، ولكن حتى في هذا الوقت لا يملك “مونشي” هذه الرفاهية، فهاتفه يهتز باستمرار، وتنهال عليه الرسائل، وحتى خلال هذا اللقاء كان متعدد المهام، حيث انشغل من حين لآخر بعملية نقل المهاجم الكولومبي “لويس مورييل” إلى نادي “أتلانتا”.
لم يتلاعب أحد بسوق الانتقالات الصيفية مثلما فعل “إشبيلية” في العشرين عاماً الأخيرة، بل إنه بنى اسماً وثروة على أساس قدرته ليس فقط على تحديد أهدافه في الشراء، بل في اختيار الوقت الأمثل لبيع لاعبيه.
في نهاية القرن العشرين، كان “إشبيلية” يقبع في دوري الدرجة الثانية الإسباني، مهدداً باحتمالية قد تضطره إلى بيع ملعبه العريق “الرامون سانشيز بيزخوان” ليحافظ على اتزانه الاقتصادي.
أما الألفية الجديدة، فكأنما أشرق نجم النادي الأندلسي، بتحقيقه للكوبا ديل راي، السوبر الإسباني، السوبر الأوروبي، وأخيراً بطولتهم المفضلة حيث لا صوت يعلو فوق صوت “إشبيلية” في اليوروباليج بخمسة ألقاب منذ بداية القرن.
يباهي رئيس إشبيلية “خوسيه كاسترو” بالفارق الهائل حين انضم لمجلس الإدارة في بداية الألفينيات، حيث ميزانية لا تتعدى ال18 مليون يورو، مقارنة بالوقت الحالي حيث وصلت إلى 212 مليون يورو.
ينسب فضل عملية إحياء هذا الفريق إلى القيادة الحكيمة داخل الميدان وخارجه، وفي جميع أقسام الفريق، لكن جميعنا يعلم أن قسماً بذاته له النصيب الأكبر من هذا الإنجاز، القسم الذي انتدب “مونشي” على رأسه منذ ما يقارب العشرين عاماً.
ولفك أسرار هذا النجاح يجب الإشارة إلى ثلاث لحظات محورية في تاريخ “إشبيلية” الحديث، ثلاث محطات حرجة ولدت من رحمها تلك المنظومة.
الأولى عام 2004، خوسيه أنتونيو رييس، موهبة نشأت وترعرعت بين أسوار النادي، يغادر صوب “أرسنال”، فيما قوبل بسيل عارم من الغضب الجماهيري، لكن لم يكن هناك مناص من بيع اللاعب إن أراد النادي الوقوف على أرضية اقتصادية صلبة.
اللحظة الثانية هي من وضعت اسم “مونشي” على الخارطة الكروية، ذلك الصيف في عام 2002 حين تابع بطولة أمريكا الجنوبية تحت العشرين عاماً، وكان كشافي الفريق الأوروبي الوحيد الحاضر في المنافسة، وخرج بتقرير هام عن لاعب برازيلي صاحب ثمانية عشر عاماً يلعب في مركز الظهير الأيمن ويدعى “داني ألفيش”، المراهق الذي حمل له المستقبل مسيرة مع برشلونة، يوفنتوس، باريس سان جيرمان حصد خلالها أربعين بطولة.
المحطة الثالثة والأهم كانت في يوم الحادي والثلاثين من أغسطس، في تمام الساعة العاشرة والنصف، حيث يتبقى أقل من ساعتين على إغلاق سوق الانتقالات الصيفية، لترد مكالمة لمونشي تحمل أخباراً بأن “ريال مدريد” قد قام بإيداع قيمة كسر عقد المدافع الإشبيلي الشاب “سيرخيو راموس”.
تلك الخطوة ظنها “مونشي” مستحيلة حتى أصبحت واقعاً، الضربة التي باغتت فريقاً من الكشافين لم يكن يبحث عن مدافع أصلاً، لذلك كانت الخطوة المتبقية هي أن يجري “مونشي” اتصالاً بصديق في بلجيكا يثق في آرائه، حيث رشح له لاعباً صربياً يدعى “إيفيكا دراجوتينوفيتش”، وبلا أي علم سابق عن قدرات اللاعب، قرر “مونشي” اختبار الأقدار وإتمام الصفقة.
قضى “دراجوتينوفيتش” سبعة أعوام في قلعة إشبيلية، حقق خلالها ست بطولات، وهنا أدرك “إشبيلية” أن عليه إما الاستمرار في طلب العون من نفس الشخص الذي قام بترشيح المدافع الصربي، أو تعديل سياسة التعاقدات في النادي تجنباً لتكرار الموقف في المستقبل.
من هنا تكونت شبكة الكشافين الأبرز في أوروبا، وبقيادة “خيسوس أوليفيرا” الذي يسرد ما يحدث في الكواليس خارج مدى رؤيتنا.
في بداية كل عام، يتم تكليف كل مكتشف منهم بدوري رئيسي (فرنسا، إيطاليا، البرازيل .. الخ)، دوري من فئة أقل شهرة (بولندا، كولومبيا..)، مع مجموعة من الدول الصغيرة كروياً (بوليفيا، بيرو..) حيث تقبع أغلب مواهبها في منتخبات الفئات السنية المختلفة دون التعمق في الدوري المحلي.
تبدأ المتابعة عبر التلفاز حتى يجمع الكشافون المواهب المميزة، ثم السفر لمتابعة هذه المواهب من أرضية الملعب، ووضع تقييم يتراوح بين A (مرشح أول) إلى D.
في أكتوبر، يجتمع الكشافون ويقدم كل منهم تشكيلة كاملة من المواهب في كل مركز، ثم يتم تقييم هؤلاء اللاعبين وفقاً لقدرة النادي الاقتصادية، والتنافس الذي سيلقاه النادي في الصفقة. فعلى سبيل المثال، حذف النادي خيار “جواو فيليكس” رغم مراقبتهم له منذ البدايات، كون الصراع على خدماته يجعل المضي قدماً في هذا الطريق محض خيال.
بعد ذلك تتم عملية تصفية أخرى بين تلك الأسماء، مرة تلو الأخرى، ووضعها على حاسوب داخلي يقوم بمتابعة هؤلاء اللاعبين، وملاحظة مستوياتهم على مدار العام، وإعادة ترتيبهم وفقاً للمستجدات.
بحلول مارس، يتبقى حوالي مائتي لاعب على هذه القائمة، حينها يأتي عمل “مونشي” وطاقمه، الذي يقوم بتصفية أسماء أخرى كمن ترتفع قيمتهم المادية، أو يصعب التفاوض مع أنديتهم، أو من يُعتقد أنهم أصحاب شخصيات مثيرة للجدل، ليبقى لدى النادي قائمة بحوالي ثمانية إلى تسعة لاعبين في كل مركز، وحينها يشرع “مونشي” في اتصالاته.
عاد “مونشي” هذا العام من روما، بعد عامين قضاهم مع الجيالوروسي، ليدرك حاجة “إشبيلية” لعملية تعديل شاملة.
البداية من المدرب، حيث تم انتداب “خوليان لوبتيجي” على رأس الفريق. تلك هي نقطة الانطلاق الأهم حيث يتواصل “مونشي” مع المدرب، ويتفهم متطلباته، ويقوم باختيار اللاعبين المتوافقين مع هذه الخصائص.
دورة حياة متكاملة يقوم بها هذا النادي، وتحكم غير مسبوق بسوق الانتقالات الصيفية، فلا تنتاب الجماهير حمى الخوف حين يخرج النجوم، لأن فلسفة الجميع تؤمن بصلاحية التجربة مرة تلو الأخرى.
صفقات الفريق الأندلسي هذا العام تحمل بصمات “مونشي” في كل مكان، ثلاثة لاعبين من الدوري الفرنسي الأقرب لقلب “مونشي” لتقارب التنافس فيه بعيداً عن قمة الجدول، “أوليفير توريس” الإسباني الذي استعاد كثيراً مع بريقه باتخاذ خطوة للوراء في الدوري البرتغالي بعد فترة قضاها مع “أتلتيكو مدريد”، “خوان جوردان” من “إيبار”، و”سيرجي ريجيليون” على سبيل الإعارة من “ريال مدريد”، إما لاعبون يرغبون في الانتقال إلى مستوى أعلى، أو مجموعة يتخذون خطوة للخلف لإثبات موهبتهم في مكان آخر.
ورغم كل ما سبق، حين تم سؤال “مونشي” عن السبب الأبرز لنجاح النادي، لم يربطه بالكشافين، ولا الصفقات، ولا ما يحدث في هذه المكاتب طوال العام، بل ما يلي فصل الصيف.
إنها الأجواء الأصيلة التي يجدها الجميع داخل النادي، السماح للاعب بالنضج والازدهار في بيئة أقل ضغطاً، وأكثر ودية.
أنهى “مونشي” حديثه قائلاً: “كم لاعب غادر النادي غاضباً؟ صفر. اذهب لسؤال راكتيتش أو دراجوتينوفيتش وغيرهما عما إذا ظلوا مشجعين للنادي، جميعهم سيخبرونك نفس الإجابة، وهي نعم”.
المصدر: نيويورك تايمز