الأجنحة العصرية ومهمة التنقيب عن الذهب

تقرير- محمد عصام

حيوية اللعبة، قوى لايمكن توقعها، التجسيد البشري للكهرباء، هكذا وصف المجتمع الكروي لاعبي الأجنحة، واعتبرهم المصدر الأول للمتعة، والعناصر التي تدب الحياة في الجلد المدور، هؤلاء القادرون على سلب العقول، وتوسيع أحداق عيون الجماهير وإشعال حماسهم بمراوغة فردية، أو خدعة سلسة طيبة الأثر على الأنظار، إنهم كرة القدم في أنقى صورها الحرفية التي اتخذت مسارها لتصل إلى المستوى الاحترافي.

وكما يرمز اسمه، فالجناح في كرة القدم هو من يساعد فريقه على التحليق، فهو مصدر السرعة والحلول الفردية، ومع تطور منظومات كرة القدم التكتيكية، والتركيز على عملية التحكم في المساحات بدقة، حاز هذا المركز على المزيد من النجومية، وأصبح محوراً لجل العمليات التي تتم في الميدان.

سابقاً، كانت أدوار لاعبي الجناح أكثر بساطة، ففي الغالب يكون الجناح هو اللاعب صغير الحجم صاحب السرعة الأكبر بين أقرانه، واعتمد المدربون على الجناح الأعسر على نفس الرواق لقدمه المفضلة، والعكس، ليقوم اللاعب بالانطلاق على خط الملعب لتقديم العرضيات، والمراوغة باستمرار في هذه الجبهة.

كانت أغلب الاستراتيجيات أيضاً تفصل بين الدفاع والهجوم، فكل مجموعة في الميدان لديها واجبات محددة، فالمهاجم لايدافع، والدفاع غير مطالب بأدوار هجومية.

ولكن مع ظهور أساليب الكرة الشاملة مع كرويف، وأسلوب “الجيجن بريسنج” الألماني، أصبحت كرة القدم وحدة واحدة، وصارت عملية الدفاع والهجوم مركبة لايمكن تنفيذ إحداهما بدقة بدون إرساء نظيرتها.

أي أن الخط الهجومي أصبح مطالباً بالضغط باستمرار، والعودة لمساندة الوسط والدفاع، وصار الخط الخلفي مصدراً لتوزيع الكرات بدقة، والإبقاء على سير مجرى الهجمات بدون التأثير سلبياً على إيقاع اللعب.

منذ ذاك الحين، تغيرت الخصائص التي تتواجد في الجناح التقليدي من السرعة والديناميكية والقدرات البدنية إلى البحث عن اللاعب القادر على ذلك بالإضافة لفهم شامل للمساحات، و قراءة اللعبة، وسرعة البديهة لتنفيذ القرارات.

تزامن مع ذلك ظهور “الأجنحة العكسية”، أي الأجنحة التي تلعب على الجهة عكس القدم المفضلة لها، وذلك لتوفير ساعد هجومي جديد إلى جانب المهاجم الصريح، وتوسيع رقعة اللعب، مع فتح زوايا تمرير أكبر نحو عمق الملعب، ومراوغة الظهير المقابل في عكس اتجاه حركته.

ومن بين المذاهب العديدة، فإن نموذج الإسباني “بيب جوارديولا” هو الأبرز في هذا الصدد، الرجل المعروف بهوس السيطرة على منتصف الميدان ومناطق التحضير في العمق، والذي لعب في مسيرته الكروية كصانع لعب متأخر “ريجيستا”، إلا أن ذلك لم يقلل من تقديره لدور الجناح في خططه، بل وبنى عليها أغلب أفكاره الثورية خلال فترته التدريبية المستمرة حتى الآن.

بين بيدرو رودريجيز، روبن، ريبري، ساني، سترلينج، دوجلاس كوستا..إلخ، تجد أن الأندية التي يتولى المدرب الكتالوني قيادتها تميل باستمرار لزيادة عدد الأجنحة بين صفوفها عاماً تلو الآخر، ولكن البداية الأوضح كانت من فترته مع برشلونة.

“الجناح هو اللاعب الوحيد الذي يحق له خسارة الكرة لدي، فهو دائماً في موقف واحد ضد واحد، وإذا فقدها فإن الخطورة للمرتدات أقل، بل يسمح لنا بذلك بالضغط العكسي قرب مناطق الخصم” هكذا يصف جوارديولا لاعب الجناح لديه، والبداية كانت مع تصعيد بيدرو رودريجيز، ثم كريستيان تيو وإسحاق كوينكا.

بيدرو رودريجيز

الكناري بيدرو كان الجندي المجهول في تشكيلة جوارديولا، اللاعب الذي اصطفاه ليتفهم بشكل كامل الوظائف المطلوبة منه، فالهدف الأبرز هو تحريك الخصم ليس الكرة، وتوسيع رقعة الملعب لمنح الموهوبين أمثال تشافي، انيستا، ميسي، فيا الفرصة لخلخلة الدفاع، والتحرك في أنصاف المسافات.

ليس هذا فحسب، بل تعلم بيدرو أيضاً متى يتخلى عن تمركزه على الأطراف، ويتحرك قطرياً لتوفير خيار إضافي للفريق أمام المرمى، لذلك سجل بيدرو العديد من الأهداف الحاسمة، وحاز على ثقة بيب باستمرار، رغم عدم تمتعه بالقدرة على المراوغة والاستعراض.

كما وصف بيب دور الجناح: “طالما يقوم هؤلاء اللاعبون بالوقوف على الأطراف، كل شئ يصبح أبسط”. فهم بيدرو متطلبات الجناح العصري، ولعب وفقاً للمتغيرات، وطبّق عملية التحرك التنقيب عن المساحات والتي تعتبر بمثابة الذهب في كرة القدم، وهو ما أعاده تقديمه في مباراة تشيلسي ضد ليفربول في السوبر الأوروبي، والتي قدم فيها أداءً استثنائياً.

ربما نشهد عملية تناقص الأجنحة التقليدية الطائرة، ولكن هذه النخبة الجديدة توفر بلا شك وجهاً مختلفاً للعبة، وتحول الجناح من اللاعب “الأناني” المتحرر، إلى اللاعب الجماعي الذي يقوم بعمل صامت ينعكس إيجاباً على أداء زملائه، وهم بهذا نموذج للتحول غير التقليدي لكرة القدم.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى