العراق- البحرين.. البقاء للأذكى !

تحليل- محمد العولقي

كانت مباراة العراق والبحرين في نصف نهائي بطولة خليجي 24، غريبة في أطوارها، مثيرة في محتوياتها، مرعبة في نهايتها الماراثونية ..

عشنا مع المنتخبين 120 دقيقة أشغالا شاقة من الترقب وتقلبات عاصفة، لم تبح بأسرارها إلا بعد الوصول إلى مرحلة الذوبان الرمادية كما أسميها، وركلات الترجيح أو التجريح كما تسمونها..

العراق والبحرين .. مباراة كانت في الأساس غامضة، عنوانها اصطدام الرغبة والطموح والتحصين، وكانت النتيجة التعادل بهدفين لهدفين، في مباراة متقلبة كالطقس، شوط ربيعي عامر بأربعة أهداف، وشوط آخر خريفي، لكنه احتفظ بكل الإثارة..

كان منتخب العراق يؤدي ضريبة الإرهاق الذهني، ومنتخب البحرين كان يدفع ثمن عدم الثبات على تشكيلة بالتقسيط، مواجهة لعبت على تفاصيل كثيرة، نفسية وبدنية ..

وضعتنا المباراة قبل بدايتها أمام وضعية مضطربة تماما، كاتانيتش مدرب العراق في وضع مستقر تقريبا، وحالة لاعبيه تبدو مثالية..

وكان هوليو دي سوزا مدرب البحرين الشغل الشاغل لكل الفنيين والمحللين، فقط لأنه لا يثبت على تشكيلة..

وجاءت المباراة لتؤكد جنون سوزا، دخل بتشكيلة مغايرة لتلك التشكيلة التي أسقطت منتخب الكويت من برجه العاجي، أما كاتانتش فقد استنجد بالتشكيلة التي أراحها أمام اليمن، ووضعنا اللقاء بالفعل أمام مأزق حقيقي في قراءة أفكار سوزا، والغريب أن هذا الرجل ضحك كثيرا، أخرج لسانه لكل منتقديه ومضى إلى النهائي لا يلوي على شيء ..

دي سوزا.. خداع بوجهين

صحيح أن مدرب البحرين سوزا استغنى عن تسعة من اللاعبين الذين هزموا الكويت، صحيح أيضا أنه لعب تقريبا بنفس العناصر التي خسرت أمام السعودية، لكن سوزا أمام العراق حتى وهو يمارس نفس النبش، ونفس آلية التغيير، فإنه جاء برسم تكتيكي صارم، رسم مغاير تماما، حتى أنك تشعر أن سوزا سلح لاعبيه بكل آليات كتيبة الكومندوز ..

مارس سوزا في مبارياته الثلاث أسلوبا هو خليط من شاكلة 4/5/1 وشاكلة 4/4/2 أحيانا أمام العراق ولكي يشل فعالية الرواقين والعرضيات حرك قليلا من بيادق الوسط ..

والحقيقة أن سوزا أثبت أنه قارئ جيد لنقاط قوة الخصم، فهو عندما صمم شاكلة 4/2/3/1، فقد كان يؤمن أن مهام الوسط الدفاعي ستلغي نقاط قوة العراق والتي كانت قليلة أمام البحرين على أية حال ..

وضع سوزا أمام الحارس سيد بشير ترسانة بإسمنت مسلح، محمد عادل وأحمد أبو غمار وعبدالله هزاع ووليد الحيام، دفاع ثابت تقريبا يصادر كل تحليقات الرواقين العراقيين ..

ثم وضع محوري وسط دفاعي مكون من محمد حردان ومحمد عبدالوهاب، ووضع أمامهم ثلاثيا ديناميكيا متحركا قطريا محمد ضياء وعبدالوهاب المالود ومحمد مرهون، ودس تياغو في العمق كمهاجم وظيفته فقط التشويش على الدفاع العراقي في الكرات الهوائية..

صرخت من أعماقي، ماذا يريد سوزا بالضبط، كيف له أن يعتمد على طريقة هيلينيو هيريرا في التحول من الدفاع إلى الهجوم ككتلة واحدة ..

هيليو سوزا مدرب البحرين، خليجي 24

تساءلت هل منتخب البحرين مثل الرهوان قادر على ابتلاع كل لاتينية العراقيين..؟، سوزا وحده حرك كل قنوات الاستغراب، لقد كان يهزأ من هذا التخصص، أي نعم أنه خلق كماشة في العمق، ورفع شعار ممنوع المرور حيث علي عدنان وعلاء مهاوي، لكنه مع ذلك نجح في مخادعة كاتانيتش ولعب شوطين بوجهين مختلفين، وهنا تكمن القوة التي جعلت منتخب البحرين يقاسم العراق الفرص والأهداف وحتى الاستحواذ على الكرة..

فقط.. راهن سوزا بعد ذلك على الحالة البدنية، كان مصيبا عندما قال إن الفارق البدني سيلعب دورا حاسما في امتصاص كل مقومات منتخب العراق، على العكس من كاتانيتش الذي لم يعمل حسابا للعامل البدني، لأنه كان يظن أن بمقدور لاعبيه العبور إلى النهائي من الوقت الأصلي ..

كاتانيتش

كاتانتش ..مفاجأة العمق

التحضير الذهني للاعبي منتخب العراق كان جيدا، وقد ارتبط كاتانيتش بهذا السبق المعنوي، وقام بتدعيمه برباط تكتيكي 3/5/2، شاكلة فيها الكثير من التوازن، لكنها خلت من أي ابتكار، هذا لأن الرسوم لم تتغير، احتفظت بكل عناصرها دون مفاجأة على مستوى البدلاء ..

الأكيد أن مدرب العراق لم يعمل حسابا لا للخصم ولا لأية حالة طوارئ قد تحدث، المشكلة أن العمق الذي راهن عليه في الدفاع هو أول من انهار، وأول من زرع الشك في نفوس اللاعبين ..

وضع كاتانيتش أمام الحارس العراقي جلال حسن، ثلاثة محاور دفاعية علي فائز وأحمد إبراهيم وهيثم جبار، وخماسي في الوسط علاء مهاوي وأمجد عطوان وصفاء هادي وعلاء عبد الزهرة وعلي عدنان، وفي الهجوم وضع إبراهيم بايش ومهند علي، شاكلة تعتمد على دفاع متأخر وهجوم مرتد، السؤال : على أي أساس بنى المدرب العراقي هذه الطريقة ..؟

هل وضعها بعد دراسة الخصم، أم أنه يراها مناسبة لقدرات وإمكانات لاعبي العراق ..؟

لا مفر إذن من حدوث التصادم، بفعل أن المدربين راهنا على الأروقة والكرات المؤطرة، المفاجأة التي لم تخطر على بال كلا المدربين أنها جاءت من العمق، وبأخطاء فردية ساذجة جدا..

شوط الإثارة والأهداف

كانت الكفة النفسية في صالح منتخب البحرين، الذي لعب بطريقة دفاع المنطقة، كان هذا المبدأ طبيعيا بحكم أن دي سوزا حاول كسر أسلوب الضغط الذي بدأ به منتخب العراق المباراة، لحظة خذلان جسدها الحارس البحريني سيد بشير، كيف ..؟

نحن الآن في الدقيقة الخامسة من الشوط الأول، لم يكن اللقاء قد بدأ في مفكرة سوزا على الأقل، لكنه بالنسبة لكاتانيتش بدأ مبكرا، ومبكرا للغاية، ركلة حرة مباشرة من خارج منطقة جزاء البحرين، علاء عبد الزهرة يصوب كرة في متناول حارس البحرين، يخطئ في الإمساك بها، فيضعها المهاجم الشاب مهند علي تزغرد في الشباك، خطأ قاتل ظن العراقيون من خلاله أنهم في نزهة، لكن الواقع على أرضية الملعب كان مختلفا ..

لم يهتز منتخب البحرين لهذه البداية القاتمة، أطلق لاعبوه استراتيجية استغلال الفرص، وحاول تفادي كل أخطائه السابقة، خاصة في التنظيم الدفاعي والرقابة رجل لرجل، من دون سابق إنذار يسجل منتخب البحرين هدف التعادل من ضربة رأس بديعة للمدافع المتألق عبدالله هزاع، هدف فضح تموضعات الدفاع العراقي، فمسجل الهدف لم يجد مضايقة ولا مقاومة فوضعها قوية، وكأنه يسدد الكرة بالقدم ..

هذا الهدف كان بداية لأزمة فنية عراقية حيث تزعزعت الثقة في نفوس اللاعبين، ومع ذلك كان يمكن للقاء أن يعيد التوازن النفسي للفريق، كرة عراقية ممررة في العمق البحريني وسباق على الكرة بين إبراهيم بايش وأحمد بوغمار ..

فجأة يجازف حارس البحرين سيد بشير، خرج من مرماه دون وعي ودون تنسيق ودون سبب، لكز إبراهيم الكرة بخفة، سقطت من فوق الحارس إلى المرمى، يا إلهي ما هذا القدر الرمادي أيها الأحمر البحريني..؟

لا شك أن لاعبي البحرين استحوذوا على الكرة بدعم من لاعبي العراق، كان العراقيون يفضلون اللعب المختصر المفيد الذي يوصل المرمى من أقصر الطرق ..

ومع ذلك اعتمد منتخب البحرين على الكرات الطولية بعد ذلك، لم يكن هذا خياره في الواقع، لأن المهاجم تياغو كان محاصرا، فيضطر للسقوط إلى الخلف لتحرير محمد مرهون وسيد ضياء وعبدالوهاب المالود ..

كان يمكن للشوط الأول أن يمضي في سلام، وينتهي بتقدم العراق، لولا لحظة عبقرية مدهشة كان بطلها محمد مرهون في الدقيقة الثانية من الوقت بدل الضائع ..

المدافع أحمد أبو غمار يرسل كرة أنجلوساكسونية عابرة للمحيطات، تجتاز كل الدفاع العراقي، ومن وضع متطرف يسند محمد مرهون الكرة على صدره بمهارة وروعة، ثم يطلقها من سمائها لمائها زاحفة في مرمى جلال حسن ..

هدف جمع بين جمالية التمرير الدقيق من مسافة بعيدة، وروعة الاستلام، وذكاء الإنهاء المدهش في المرمى، جملة تكتيكية ربما كانت الأفضل في هذه البطولة..

شوط خريفي بلا أهداف

تغيرت المعطيات في الشوط الثاني، كانت فلسفة كاتانيتش الانقضاض السريع والسيطرة الميدانية على وسط الملعب، وعدم ترك فراغات أثناء الاعتماد على اللعب السريع المباشر للأمام، تحسبا لأي احتكاك مع لاعبي البحرين الأقوياء بدنيا..

اختلت موازين حسابات كاتانيتش مع إصابة رمانة الوسط أمجد عطوان، فلم يكن البديل محمد رضا على نفس قدرات عطوان الكبيرة، هذه الثغرة نزلت على رأس دي سوزا هدية من السماء، فقد أدرك أن الفارق البدني يمكن أن يرجح كفته بالاعتماد على المرتد الخاطف..

كان من الواضح أن الشوط الثاني شوط حوار بين العوامل النفسية والإمكانات البشرية والفنية، المذهل أن البحرين الذي أحسن توظيف العوامل النفسية تغلب تماما على القدرات البشرية والفنية لمنتخب العراق..

لاحظوا أن دي سوزا صف خمسة مدافعين كالعسكر في خندق لكسر كل العتاد الفني لمهند وإبراهيم بايش وحتى المندفع علي عدنان، طريقة أتاحت للمدرب تحريك الوسط الهجومي قليلا ليبدأ رحلة النبش في عمق دفاع عراقي عانى بعض الترهل الذهني في أوقات كثيرة ..

نعم، خلق منتخب العراق بعض الفرص الخطيرة بفضل مهارات مهند وبايش ثم البديل شريف عبد الكاظم، لكن البحرينيين قابلوا ذلك بفرص أكثر خطورة، ضاعت من تياغو ومن مرهون ومن المالود ..

الجديد أن الشوطين الإضافيين كشفا عن الفارق البدني الذي صب في مصلحة منتخب البحرين، في حين بدأ لاعبو العراق في حالة ترنح، حيث كثرت الإصابات وقلت العراكية على الكرة، وبقيت الفرص نادرة عدا واحدة للبحرين أهدرها تياغو، وأخرى للعراق أضاعها مهند علي ..

ركلات الترجيح بحرينية بامتياز

عانت الكرة البحرينية كثيرا من عقدة ركلات الترجيح، عاد مشهد الخروج من نصف النهائي في خليجي 21 بالمنامة وأمام العراق نفسه إلى الواقع من جديد، ترى ما الذي تغير ..؟كان التركيز واضحا على وجوه منفذي الركلات الخمس : محمد يوسف وجاسم الشيخ ومحمد مرهون وتياغو والبديل علي مدن، سجلوا الركلات الخمس بأعصاب باردة يحسدون عليها ..

كانوا في قمة التركيز، وفي قمة التحدي، ولم يتأثروا بزئير الجماهير العراقية التي غطت ثلاثة أرباع مدرجات ملعب عبدالله بن خليفة بنادي الدحيل ..

في الجانب العراقي كان الوضع النفسي مختلفا تماما، لم يعرف اللاعبون كيف يتعاملون نفسيا مع هذا الوضع الجديد، نعم سجل العراقيون ثلاث ركلات عن طريق علي فائز والبديل درغام وإبراهيم بايش، لكن محمد قاسم وقع تحت تأثير نفسي رهيب بحق ..

فهذا اللاعب أهدر ركلته رغم أن المدرب دفع به في أواخر الشوط الإضافي الثاني خصيصا لأجل تسديد واحدة من الركلات الخمس ..

عموما تأهل منتخب البحرين إلى النهائي الكبير لأول مرة في تاريخه منذ أن تم اعتماد هذا النظام في خليجي 17، لأنه كان الأذكى في التعامل مع المباراة، حين تعامل معها على مراحل وليس كتلة واحدة كما فعل العراقيون..

ضرب منتخب البحرين موعدا مع شقيقه السعودي في النهائي يوم الأحد القادم، لأن الواقعية التي انتهجها دي سوزا رغم غرابتها كانت مثمرة بحق،
السؤال : هل يحقق منتخب البحرين حلم جماهيره ويتوج باللقب لأول مرة ومن قلب الدوحة ..؟

ترى ماذا في جعبة الحاوي دي سوزا من حيل ومفاجآت تحسبا لليلة الكبيرة التي قد تكون تاريخية ..؟.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى