قراءة في مفكرة مدرب عاقل.. كنا نظنه مجنونا!

تحليل- محمد العولقي

هيليو سوزا .. مدرب برتغالي شاب .. نشط في تدريب الفئات العمرية في البرتغال .. حقق معها بعض الإنجازات على مستوى أوروبا ..مدرب تكوين وليس مدرب اللمسة الأخيرة.

ربما كان هذا هو السبب المباشر الذي دفع الاتحاد البحريني لكرة القدم للتعاقد معه .. كمدرب بناء .. لا مدرب إشراف، بعض الذين غرتهم فلسفة سوزا مع منتخب البحرين في دورة كأس الخليج الأخيرة .. شبهوه ببلدياته جوزيه مورينيو مدرب توتنهام الإنجليزي حاليا.

بعض من الذين يدخلون علينا من النافذة كمحللين .. يهرفون بما لا يعرفون .. نصبوه ساحرا و(سبيشال ون) جديد، لمجرد أنه مدرب تمرد على معتقداتنا .. ونسف تقاليدنا في تمجيد وصناعة النجوم.. ولو على الورق.

حقيقة بعضنا استعصى عليه هضم تحولات هذا المدرب .. وبعض الذين لا يودون الخروج عن موروثنا الخليجي في تقديس ثبات التشكيلة .. نعتوه بالجنون .. وكلما توقعوا فشله في مباراة .. خيب ظنهم .. فاز بالفريق الأول .. وفاز بالفريق الثاني.. ومضى وحيدا في البطولة متأبطا الجمل بما حمل.. بعد أن أشرك جميع اللاعبين في الدورة، أما الآن.. وقد هدأت الأعصاب .. وارتخت الأوتار المشدودة.

دعونا نناقش فلسفة سوزا مع صانعي الحلوى دون انفعال .. وبعيدا عن التعصب لأطروحات ما صاحب البطولة من تهجم أعمى وقراءة غير منطقية وغير منصفة.. دعونا نفتش عن الخلطة التي أهدت البحرين لقبها الأول بعد خمسين عاما من الانتظار.

البحرين تتوج بكأس الخليج 24 في العاصمة القطرية الدوحة بعد تغلبها على المنتخب السعودي بهدف دون مقابل

المنطق يقول: سوزا عرف كيف يدير الأوركسترا البحرينية.. عرف كيف يضبط مقادير حلواه الشهية التي تذوقناها .. أبدا لا يكمن هذا الإنجاز في خلطة سحرية كالتي نسمع عنها في الوجبات الغذائية الخفيفة.. فالأمر من وجهة نظر منطقية لا يخلو من توظيف قدرات اللاعبين بدنيا بالدرجة الأولى.. ثم فنيا وتكتيكيا بالدرجة الثانية.

معروف أن اللاعب الخليجي يتشابه في التكوين مع أي زميل آخر .. ومعروف أيضا أن ثقافة اللاعب الخليجي على قده .. لا يمكن بأي حال من الأحوال أن تصل إلى ثقافة لاعبي عرب شمال أفريقيا مثلا.

المتتبع لكل دورات كأس الخليج ال 24 الماضية .. سيكتشف ببساطة متناهية أن الفائز باللقب هو الفريق الأكثر طراوة من الناحية البدنية .. يعني بأسلوب السهل الممتنع .. أعطني فريقا لياقته البدنية في التوب .. أمنحك لقب كأس الخليج.. وأنت تضع رجلا على رجل .. هذه هي خلطة تجاوز مأزق البطولات المجمعة والمضغوطة.

وحتى لا تغضبوا من هذا الاكتشاف الذي تفطن إليه سوزا .. راقبوا حصاد منتخب البحرين جيدا .. ثم أجيبوا عن هذه الأسئلة: هل كان منتخب البحرين مميزا من النواحي الفنية ..؟، هل كان فنيا أفضل من منتخبات السعودية والعراق وعمان وحتى قطر ..؟، هل مارس سوزا شاكلة لعب جديدة قلبت الطاولة تكتيكيا على رؤوس المنافسين ..؟

لاحظوا أن البناء الفني لمنتخب البحرين لم يصنع الفارق .. لكنها ذهنية اللاعبين .. ومعنوياتهم القتالية التي ما كان لها أن تحسم معارك كروية صعبة.. لولا أن منتخب البحرين تسلح بسلاح اللياقة البدنية الخارقة.

كان سوزا يؤمن تماما أن المعارك التكتيكية في بطولة مجمعة فوارقها الفنية متشابهة لا يمكن أن تحسم الأمور .. ولأنه قارئ ذكي لقدرات اللاعب الخليجي وإمكاناته التكتيكية المحدودة جدا .. سيبقى الرهان على الجانبين البدني والنفسي معا، سلاح يخفي كل تلك العيوب الفنية والتكتيكية.

هذه القراءة تقودنا إلى الحقيقة التالية: سوزا ليس مجنونا.. بل هو مدرب عاقل وذكي، استخدم مبدأ ديكارت: “أنا أفكر .. إذن أنا موجود”، والتفكير قاد سوزا إلى هذه البديهية العادية جدا: “دعك من الجوانب الفنية والتكتيكية.. تعامل مع دورة كأس الخليج بدنيا .. ودع الأمور تمضي.. شريطة أن تضع جميع اللاعبين تحت باطك وعلى أهبة الاستعداد نفسيا وبدنيا”.

نعم .. غرس سوزا في نفوس لاعبي البحرين ال23 شعار الكشافة المعروف: “كن مستعدا .. وهذا ما فعله جملة وتفصيلا .. يعني الأمر ليس خارقا .. ولا فيه دخان سحري .. ولا فيه أيضا حظ.. اجتهد منتخب البحرين ولكل مجتهد نصيب .. نفذ وصية سوزا بحذافيرها.. أقنع سوزا اللاعبين بحتمية المداورة والتغيير في الهيكل البشري من مباراة إلى أخرى .. فأشعل هذا التنافس سعار الفوز في نفوس اللاعبين.

مدرب منتخب البحرين البرتغالي هيليو سوزا الذي قاد البحرين للقب خليجي 24

هل لاحظتم أن لاعبي البحرين كانوا خيولا تصهل على طول دفاعا وهجوما ..؟ أمام العراق لم تظهر أية بادرة للتعب بدنيا وذهنيا على لاعبي البحرين.. رغم أنهم ركضوا 120 دقيقة .. على عكس منتخب العراق الذي ترنح لاعبوه بدنيا ونفسيا خصوصا بعد تعاملهم الساذج مع منتخب اليمن.

وفي بطولة مجمعة عليك أن تلعب مبارياتها الخمس في ظرف 13 يوما .. وبمعدل مباراة كل يومين تقريبا .. كيف تضمن ألا يصيب فريقك الإعياء البدني و الإجهاد النفسي ..؟

الإجابة بالطبع لا تحتاج إلى فلسفة وكلام كبير عن المرونة التكتيكية والانضباط الفني أو غيره .. إنك فقط تحتاج إلى جرأة في منح الفرصة أمام جميع اللاعبين .. بعد ذلك فليحدث ما يحدث ..

سر سوزا في خليجي 24

من تابع مباريات منتخب البحرين في التصفيات المزدوجة .. ربما لاحظ أن سوزا اعتمد على الثبات في معظم المباريات .. لأنها جاءت على فترات متباعدة تتيح للاعبين فرصة الحفاظ على طراوتهم البدنية ولياقتهم الذهنية ..

لهذا كان عليه في بطولة كأس الخليج البحث عن إطار فهم جديد.. يحمي لاعبيه من تصدع المباريات المتوالية .. منعا لأي تآكل بدني ونفسي .. لم يأت سوزا بأي جديد في أساليب اللعب .. كان دائما يعتنق فلسفة 4/2/3/1 .. شاكلة ظلت ثابتة كرسم ..

لكن أدوات تنفيذها تغيرت من مباراة إلى أخرى.. بهدف الاحتفاظ بأهم مبدأ تحتاجه المباريات المضغوطة .. مبدأ التوازن النفسي والبدني قبل كل شيء ..

أمام عمان لعب بتشكيلة كان سلاحها الضغط الرهيب على منتصف ميدان منتخب عمان .. استنفد لاعبو البحرين طاقة بدنية وذهنية عالية للحصول على نقطة التعادل البيضاء التي نفعت كثيرا في اليوم الأسود.

ولأن سوزا يدرك تماما أن اللاعبين الذين شاركوا أمام عمان لا يمكنهم خوض مباراة أخرى بعد 48 ساعة فحسب .. فقد عهد بالأمر للفريق الآخر أمام المنتخب السعودي .. خسر اللقاء .. لكنه كسب فريقا لم يلعب وجاهز لإتمام المهمة البدنية أمام الكويت .. كرر نفس الروشتة أمام العراق القوي .. وكسب المعركة البدنية عن جدارة .. ثم فاز لأنه المنتخب الأكثر تركيزا ..

اللاعبون البحرينيون يحيون جماهيرهم التي ساندتهم في نهائي خليجي 24 في استاد خليفة بن حمد بالعاصمة القطرية الدوحة

في النهائي أمام المنتخب السعودي أجلس جميع اللاعبين الذين هزموا العراق .. ولعب بفريق آخر متعطش للفوز .. ولياقة لاعبيه النفسية والبدنية في أعلى منسوب من الانتعاش .. وفاز دون الحاجة لأية معركة تكتيكية مع مدرب المنتخب السعودي.

ربما لو طلب أحدكم مني دليلا على فلسفة سوزا .. لاخترت هدفين يختزلان كل استراتيجية سوزا البدنية والنفسية..

الأول: هدف لاعب الوسط الطرفي محمد مرهون في مرمى العراق.. في الوقت بدل الضائع من الشوط الأول .. وكان هدف التعادل الثاني القاتل .. كيف جاء الهدف ..؟كرة ممررة من مدافع بنحو 50 مترا تقريبا .. عالية خلف مدافعي العراق .. يروضها مرهون بصدره .. ثم يطلقها زاحفة نحو الزاوية اليسرى ..

الهدف في محتواه طبخة أنجلوساكسونية .. كرة اللمسة الواحدة .. التي تختزل مسافة كبيرة وشاسعة .. هذه الطريقة لا يمكن تنفيذها بهذه الدقة المدهشة إلا إذا كان الفريق جاهزا بدنيا وتحت أي ظرف .. وعندما تأتي هذه الطريقة في توقيت ميت .. ماذا يعني هذا ..؟ غير أن منتخب البحرين في فورمة بدنية وذهنية عالية جدا.

الثاني: هدف البطولة في مرمى المنتخب السعودي .. وسجله المهاجم محمد الرميحي مع منتصف الشوط الثاني .. كيف جاء هذا الهدف الثمين ..؟، نفس السيناريو .. هجمة سعودية تنقطع على أبواب الدفاع البحريني .. تنتقل الكرة في رمشة عين من لاعب الوسط .. إلى الجهة اليمنى .. ومنه عرضية إلى المندفع الرميحي الذي بصم بلمسة خاطفة على هدف التتويج ..

إن هذا الانتقال السريع الخاطف من الحالة الدفاعية إلى الحالة الهجومية.. لا يمكن أن يحدث بهذه الدقة لولا أنك أمام فريق متشبع بدنيا ومرتاح نفسيا ومركز ذهنيا .. وطبعا لكم أن تسألوا أي خبير عن سر هذه الخلطة .. سيقول لكم: عندما يكون اللاعبون بدنيا في القمة .. ينتج عن ذلك تركيز تام .. وحالة نفسية مستقرة .. بعد ذلك فتش عن التكتيك في مفكرة سوزا ..

ما رأيكم .. هل استوعبتم كيف قفز منتخب البحرين قفزة مدوية في خليجي 24؟ هل تتفقون معي بأن سوزا مدرب ذكي وعاقل وليس مجنونا كما صوره بعض من يدعون أنهم ضليعون في فك شيفرة الشاكلات ..؟

مقالات ذات صلة

تعليق واحد

  1. تحيل نادر ..لم يهمش الفنيات التفصيلية ولكنه اقتحم بجرأة رائعة ملابسات اللياقتين ..البدنية و النفسية و حرك تناولات لم تكن لتخطر على بال أحد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى