كيف انهارت كرة القدم الحديثة بشكل لا يمكن إصلاحه؟ (الجزء الثاني)

تقرير – محمد يوسف

قبل عقدين من الزمن، كان الحجم المالي لأضخم الأندية يساوي الحجم المالي لمتاجر السوبر ماركت المحلية فحسب. ولكن حجم اللعبة قد تغير تماماً؛ وكما يذكر ديفيد جولدبلات في كتابه الرائع “عصر كرة القدم” أن: الرياضة في أوروبا تحصد الآن إيرادات مالية أكثر من صناعة النشر الصحفي أو السينما في القارة بأكملها.

الأموال كانت هي الفارق الأكبر. والمزيد من الأموال أدى ببساطة إلى مزيد من التفاوت بين الأندية.

فارق هائل في الأجور

بالنظر إلى الأجور، الفارق بين أجور أندية أسفل الترتيب إلى الأعلى في الدوري الإنجليزي الممتاز انتقل من 2.85 ضعف في موسم 1992-93 إلى 4.7 ضعف العام الماضي. وفي إسبانيا، وصل إلى 17.2 ضعف، وفي بعض الدوريات المتوسطة الحجم مثل سويسرا يصل إلى أكثر من 20 ضعف.

وهذا أمر مهم بسبب مدى الأهمية التي تمثلها الأجور بالنسبة لطريقة عمل الرياضة نفسها؛ حيث أبرزت عدّة دراسات أن الأجور تؤثر بدرجة أكبر من أي شيء آخر على كرة القدم.

كما يقول فيران سوريانو، الرئيس التنفيذي لنادي مانشستر سيتي: “شراء أغلى اللاعبين لا يحصد تلقائياً النتائج الجيدة. ما يحصد تلك النتائج الجيدة هو امتلاك أفضل اللاعبين في فريقك وأن تدفع لهم الراتب الذي يستحقونه”. وهذا ما يخلق الفارق الهائل بين الأجور حالياً.

وكما يذكر نيكولا كورتيز، الرئيس التنفيذي السابق لنادي ساوثهامبتون: ”كنت أملك المال لشراء اللاعبين، ولكن لم أملك المال الازم للحفاظ على هؤلاء اللاعبين”.

وتلك هي المعضلة الرئيسية بالنسبة لمعظم أندية الدوري الإنجليزي الممتاز والتي تسعى إلى مزيد من النمو، بالرغم من تدفق أموال البث التلفزيوني الذي سمح لهم بدفع أموال كثيرة في عملية انتقال اللاعبين.

ومن خلال أحدث الأرقام المتوفرة في البطولة، دفعت الأندية “الستة الكبار” نحو 51.3% من مجموع الأجور في الدوري. وبالطبع أدى هذا التفاوت المالي إلى تفاوت مماثل في النتائج، وهكذا فإن عدم إمكانية التنبؤ بنتائج كرة القدم تبدأ في الانهيار.

التأثير الهائل للتفاوت المالي

تُظهر كل المقاييس أن الرياضة في جميع أنحاء أوروبا يمكن التنبؤ بنتائجها، وبصورة أكبر مما كانت عليه منذ 30 أو 20 أو حتى 10 سنوات مضت. ويمكنك البدء من دوريات القمة؛ حيث أن متوسط النقاط التي فاز بها أبطال الدوري في الدوريات الخمس الكبرى قد ارتفع بشكل ملحوظ.

الفارق في متوسط النقاط التي فاز بها أبطال الدوري في الدوريات الخمس الكبرى منذ التسعينيات

قد تُظهر إنجلترا تغيراً هامشياً فحسب منذ بداية الألفية وحتى العقد الماضي، ولكن التغيير يصبح أكثر وضوحاً بكثير إذا ركزت على المواسم الثلاثة الماضية؛ حيث يصل متوسط النقاط للفري الفائز بالبطولة إلى 96.7 نقطة، وهذا حتى قبل أن نحتسب موسم ليفربول الحالي.

وقد يرجع ذلك، إلى حد ما، إلى المعايير التي رفعها مدربون أمثال بيب جوارديولا ويورجن كلوب. لكنهم يتقاضون الكثير من الأموال أيضاً، وهم جزء من نفس تلك القوة العالمية. ما يمثله هذا الارتفاع المذهل في عدد النقاط هو أن أغنى الأندية ببساطة تفوز بالمزيد من المباريات كل موسم.

التفاوت الكبير بين الأندية زاد من متطلبات الفوز بالدوري، ويمكننا أن نرى ذلك في الأرقام التي تنذر بالخطر: وهي السلسلة المتواصلة من الفوز ببطولة الدوري. حتى أنه في بعض الدوريات، أصبح من المستحيل لأي فريق آخر أن يفوز بالبطولة.

قبل هذا السباق المحموم، لم يسبق لنادي بايرن ميونيخ أن فاز بأكثر من ثلاثة ألقاب بوندسليجا على التوالي. بينما الآن قد فازوا بسبعة ألقاب على التوالي، وهو أطول سلسلة بالفوز بالبطولة في تاريخ ألمانيا، وهي أيضاً واحدة من ثماني حالات مشابهة في جميع أنحاء أوروبا.

السلسلة المتواصلة من الفوز ببطولة الدوري في أوروبا

لم يحدث مثل هذا الموقف من قبل، حيث تُعاني كثير من بطولات أوروبا، 13 من أصل 54 بطولة، من هذه الهيمنة من فريق واحد وفي نفس التوقيت.

ويمتد الأمر من دوريات القمة إلى الدوريات المتوسطة، مثل كرواتيا حيث فاز دينامو زغرب في 13 من آخر 14 بطولة، ومثل الدوري النمساوي، وحتى أقل الدوريات مثل دوري أندورا، ويُظهر هذا مدى عمق المشكلة.

كما أن جوائز دوري أبطال أوروبا، والتي أصبحت واحدة من أصعب المشاكل في اللعبة، تملك تأثيراً أكبر من أي شيء آخر في خلق مثل هذا التفاوت. والصعوبة في التأهل للبطولة، بطبيعة الحال، هي مجرد تمثيل آخر لهذا التفاوت.

يمكن شرح هذه المشكلة من خلال حقيقة مهمة: أن الأندية المختلفة التي تُنهي الدوري في المراكز الأربعة الأولى كانت 15 نادي في السبعينيات و13 نادي في الثمانينيات والتسعينيات، بينما منذ بداية الألفية وفي العقد الماضي وصلت إلى 7 أندية فقط.

عدد الأندية المختلفة التي تُنهي الدوري في المراكز الأربعة الأولى في الدوريات الخمسة الكبرى

الدوريات الكبرى الأخرى تحكي نفس القصة، وذلك حتى بدون وجود ستة أندية كبيرة محددة مثل إنجلترا. وكما هو الحال مع السباق على الفوز باللقب، زادت الثروة أيضاً من النقاط اللازمة للتأهل إلى دوري أبطال أوروبا.

الفارق في متوسط النقاط اللازم لإنهاء الموسم في المركز الرابع من التسعينيات

لم يعد الأمر يتعلق بمجرد الفوز بالمباريات، لكن حتى فارق الأهداف زاد في كل مباراة؛ مثلاً بالنظر إلى أغنى أربعة أندية في إنجلترا، والتي تنوعت منذ بداية الدوري الإنجليزي الممتاز، زادت نسبة فوزهم بثلاثة أهداف أو أكثر من 12.6% منذ التسعينيات حتى 21.3% في العقد الماضي.

ولكن هذا الأمر أكثر وضوحاً في الدوري الإسباني، حيث يوجد ناديين خارقين فحسب؛ حيث كانت نسبة فوز ريال مدريد وبرشلونة بثلاثة أهداف أو أكثر قد قفزت من 20.5% في التسعينيات إلى نسبة مذهلة وصلت إلى 37.8% الآن.

نسب فوز الفرق الأغنى في المباريات بثلاثة أهداف أو أكثر منذ التسعينيات

التحول في كرة القدم ككل لا يمكن إنكاره الآن، وببساطة فإن مجرد القول بأنها “كانت دائماً على هذا النحو” هو أبعد ما يكون عن الحقيقة؛ فلم يكن الأمر بهذا السوء من قبل، وقد يزداد الأمر سوءاً في المستقبل.

كيف بدأت المشكلة؟

القوى التي قادتنا إلى هذا الوضع تعتبر بنفس أهمية تأثيرها.

في البداية كان الأمر مفاجئاً بالنسبة للأربعة عشر نادي في إنجلترا، ثم بدأوا الإحساس بأن “الستة الكبار” يستغلونهم فقط.

الحجة المستمرة في إنجلترا هي أن: “الستة الكبار” هم الأندية التي تسترعي كل الاهتمام الدولي، وبالتالي فهي تستحق المزيد من الأموال. ومن الواضح أن الحجة المضادة هي أنهم بحاجة إلى فرق أخرى ليلعبوا ضدها، وأن مبدأ تأسيس الدوري الإنجليزي الممتاز قائم على المساواة.

والمعضلة الأكثر تعقيداً هي أنه كلما زادت الأموال التي يتلقاها “الستة الكبار”، أصبحوا أنديةً أفضل، والأكثر جاذبية إلى الجمهور، ويعقدوا صفقات تجارية أفضل. وكلما أصبحوا أفضل وأكثر جاذبية، تتكرر نفس هذه الدورة، وتستمر زيادة الفجوة.

وفي كل مرة يظهر نقاشاً حول توزيع الإيرادات للبث التلفزيوني، تبدأ الأندية الكبرى في طرح مبدأ الجاذبية. ولكن هذه المعضلة، التي لا تزال قائمة وتتزايد في اللعبة، هي صورة مُصغرة للوضع الأكبر الذي أدى بكرة القدم إلى حافة الهاوية.

لقد اجتاحت الرأسمالية اللعبة، نعم بالتأكيد، ولكن ما ضاعف المشكلة هي أن أصحاب المصلحة الأكثر نفوذاً قد تبنوا ذلك إلى أقصى حد.

لم تكن هناك تقريباً أي مقاومة أو تنظيم، مما أضاف في حد ذاته طبقات جديدة من المشاكل الذاتية. وكانت عدوانية الأندية الكبيرة جزءا أساسياً منها، ولهذا السبب تهدد المشكلة بأن تزداد سوءاً.

كما يقول جولدبلات أن المشكلة ضخمة؛ بسبب أن تلك الفوارق كانت متجذرةً بالفعل في هيكل كرة القدم العالمية، قبل حتى أن تدرك السُلطات ضرورة أن تفعل شيئاً ما حيال ذلك. حيث كان هذا التجذر الأولي، بطبيعة الحال، رأسمالياً بشكل واضح.

الحالة الأولى كانت في إنجلترا في عام 1983، حيث كانت إحدى لوائح الاتحاد الإنجليزي في ذلك الوقت، من القرن التاسع عشر، تُسمى القاعدة 34، والتي تنص على أن الأندية هي مؤسسات اجتماعية. فالقاعدة 34 تحظر على المديرين أن يتقاضوا الأموال، وقصرت الأرباح على حاملي الأسهم.

نادي توتنهام كان أول الأندية التي اتجهت إلى طرح الأسهم في سوق البورصة، لذا طلبوا تشكيل شركة قابضة للتهرب من قيود القاعدة 34. فلم يعترض الاتحاد الإنجليزي، وبدلاً من ذلك سمح بتجاوز القانون. وافق هذا، في منتصف الثمانينيات، تغيير توزيع الأموال، والذي شهد حصول الفريق صاحب الأرض على نسب أكبر، وهذا وجه مزيداً من الأموال نحو الأندية الأكبر.

وكما يذكر جولدبلات: “ما فعلته اتحادات كرة القدم، باستثناء الاتحاد الألماني، بتخطي مثل هذه القوانين، كان له أكبر الأثر فيما وصلنا إليه حتى الآن”.

 

الجزء الثاني من تقرير خاص في صحيفة الإندبندنت

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى