سعيد دعالة.. جمر الوداع ..!

كتب- محمد العولقي

مالحة هي الكلمات في فمي، وحارقة هي الدموع على وجنتي، أقبض على جمر الوداع بقبضة ولهان تقطعت به الطرق المؤدية إلى قافية الرثاء .. آخى الكابتن سعيد دعالة كوكب كرة القدم تراب عدن .. أسدل الستار على مشهد الوداع التراجيدي .. ثرى عدن الندي الأحق بجسدك الذي روض جبالها لاعبا فذا لم ير الجنوب مثيلا له في الملاعب .. سعيد دعالة .. الفنان الذي أطرب البراري والصحاري .. عزله المرض عن محبيه .. توارى عنهم بعزة نفس .. وتواروا عنه دون وصال .. ضاجع الوجع كل لحظة.. كان على ثقة أن قومه سيتذكرونه في الليلة الظلماء.. وعندما جد جدهم كان الرحيل إلى حيث الراحة الأبدية ..

مات سعيد دعالة وفي داخله وطن ترعرع في ملاعبه وقد كان نطفة ومضغة وعلقة .. مات صامتا كما عاش بيننا صامتا لا تفارق الابتسامة شفتيه.. مات الحب العفيف الطاهر النقي في زمن تكورت فيه البطون .. وانغمست فيه ضمائر القادة في بحر المجون .. مات سعيد وحلمه الكبير معتقل وتحت رحمة الجراد والبوم والغربان ..

هل سأل سعيد نفسه في لحظة الحشرجة.. ماذا سيفعل مسؤولو بلادي في عزائي ..؟، لا شيء يا (عاقل) .. يقتلون القامات الرياضية ويمشون في الجنازة .. هذه عادة المهجنين المتزحلقين على جليد الإفك والكذب والبهتان .. نعم يا عم سعيد .. يا من أسعدت وطنا وأوطانا .. وأفرحت شعبا وشعوبا ..سيأتي مسؤولو (أبو بيستين) إلى سرادق عزائك.. سيشربون القهوة والشاي .. سيتحدثون عن غلاء الأسعار .. وعن ارتفاع الدولار ..وربما يأتي قزم قيادي يبول ويتغوط على تاريخ نجوم الكرة الجنوبية ويسأل ببلاهة : من هذا سعيد ..؟، نعرفك يا (عاقل) في عيون البسطاء .. نحلة لا تتنفس بغير رحيق الزهور والورود .. نعرفك في عيون جماهيرك .. وجه السعد الذي يزين تجاعيد بؤسنا .. نعرفك في ملاعبنا المحلية و العربية كرنفالا فوق العادة.. شرابا كرويا مستساغا فيك لذة للظامئ والمحروم ..

سعيد دعالة.. أسطورة الحسيني .. أسطورة التلال .. أسطورة هورسيد الصومالي .. أسطورة الوحدة الإماراتي .. أسطورة الزمالك المصري .. يا إلهي إنه مجموعة أساطير كروية لا أول لها ولا آخر … سعيد دعالة .. مهاجم بارع .. يغازل الشباك بحس شاعر .. صانع ألعاب عبقري يحمل شوكته على ظهره كالعقرب تماما .. مناور فلتة قلما تفشل تسرباته الخطيرة .. قائد محنك يسيطر على أجواء المباريات .. كلما تتعقد الظروف يظهر سعيد دعالة على حصانه الأشهب كغيمة غيث تمطر حيث تشاء قدمه الساحرة .. سعيد دعالة.. هداف الحسيني في الستينيات والسبعينيات .. أبرع وأروع من غازل كرة القدم قديما وحديثا .. هداف بطولة كأس أفريقيا للأندية أبطال الكؤوس ثلاث مرات مع نادي هورسيد الصومالي .. هداف التلال بعد الدمج .. هداف الوحدة الإماراتي .. بطولاته تعاني من التخمة.. يا الهي إنه إحدى عجائب كرة القدم في زمنه الجميل ..

طاف سعيد مدنا كثيرة .. وشاف في رحلة العجائب أمصارا وأقطارا .. لكن الحب في قلبه كان للحبيب الأول .. لعدن التي أمنته من خوف وأطعمته من جوع .. في كل مرة كان سعيد دعالة يشهق ويزفر في ملعب الشهيد الحبيشي بعدن .. كان يعزف بقدميه البارعتين لحن الخلود .. كان سعيد عقدا ذهبيا يرصع صدر الكرة العدنية .. كلما استحضرنا تاريخ كرة القدم العدنية يطل سعيد دعالة بأرقامه الكاسحة التي لا تكذب ولا تتجمل بلا منافس وبلا مناجز .. كان بسيط بساطة ناس عدن .. أسمر أسمراني جميل في جمال سواحل عدن .. تتدفق أمواجه على الصخور الحمراء حاملة ما خف وزنه وغلا ثمنه .. أنيق أناقة شوارع الطويل والزعفران والملكة أروى .. عرقه يفوح بفل الحسيني وريحان الكمسري .. عشقته عدن كما لم تعشق لاعبا من قبل .. تحن إليه ويحن إليها .. تئن فيئن معها .. تعطس فيزكم .. تنوح فينوح قلبه .. عدن توأم روحه .. قدره .. حظه ونصيبه .. عدن ستحتفظ بسعدها وسعيدها إلى الأبد .. أما نحن فحتى رقم جواله سيسقط بالتقادم ..

كان فيلسوف الكرة العدنية سعيد دعالة جميلا .. جميل الروح إلى الحد الذي جعل عدن عاجزة عن حمله في زمن التصحر الأخلاقي .. فخبأته بتاريخه المثخن بجراحه داخلها .. احتفظت بعنوانه لنفسها طالما وقد استأثر بها ليلا ونهارا .. يا عاقل الكرة و ميزانها العادل .. أرثيك يا نجما هوى في الليلة الظلماء .. أبكيك ببيان نعي .. يا عاقلا توارى بين الأنام .. يا لحنا خالدا لن يجود الزمان بمثلك .. يا من وصل صدى قدمه فأسمع الجوزاء سيمفونية لحنه .. ألا يا سعيد الهوى والهوية جف دمعي .. وتحجرت بوصلة المآقي .. فهل لمن عشقك وودعك إلى جنة الخلد أن يشتري سهرا بليل ..؟، يا رفاق سعيد دعالة.. يا عشاقه .. يا محبيه .. هل منكم من يعطيني عينا أبكي بها سعيدا ..؟ هل أستعيركم قافية وداع تهز القلوب الحية وتقض مضاجع جفن الردى ..؟.

فقدناك يا سعيد حيا .. وها نحن نفقدك ميتا .. كنت بالأمس هنا تلعق أحزانك وآلامك وحيدا بلا رفيق .. واليوم رحلت عنا بهاجس وجعك وولعك ومخاض عزلتك .. اللهم يا مجيب الدعاء تغمد فقيد الكرة العدنية بواسع رحمتك وأسكنه فسيح جناتك .. يارب لا تفجعنا بقريب أو حبيب واجعل خير أعمالنا خواتيمها .. إنا لله وإنا إليه راجعون ..!

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى