ذكرياتي مع باولو روسي ..!

كتب- محمد العولقي

في صيف 2004 التقيت ثعلب الكرة الإيطالية الشهير باولو روسي، المهاجم النحيل ذو الأنف المتمرد، كان وقتها في زيارة للعاصمة التي حوت كل فن (صنعاء)، قررت وقتها انتهاز الفرصة الثمينة، كما كان انتهزها روسي نفسه أمام مرمى البرازيل، وبعد إلحاح وتواصل مع المرافق الإعلامي للبعثة الإيطالية الزميل المبدع أرحب الصرحي، وافق روسي على إجراء حوار لمجلة الصقر القطرية وصحيفة الرياضة اليمنية التي كنت وقتها مديرا لتحريرها، كنت حينها كاتبا رسميا لمجلة الصقر في الشأنين اليمني والعالمي، وكان يهمني كما كان يهم رئيس التحرير الأستاذ سعد الرميحي إنجاز هذا الحوار مع مهاجم غير معالم وخريطة بطولة كأس العالم الثانية عشرة في إسبانيا 1982 في ظرف ثلاث مباريات لا غير ..

كان روسي قد اشترط أن تكون مدة الحوار ساعة، لكنني فاجأته وقتها بنوعية النقاش وحيويته المغلفة بالذكريات السعيدة جدا في مونديال إسبانيا، والتعيسة جدا في مونديال المكسيك، فامتد الحوار قرابة الثلاث ساعات.. عندما نظر روسي إلى ساعته الذهبية رفع حاجبيه الكثين الأشيبين قائلا : “لقد خدعتني كما خدعت البرازيل في مونديال إسبانيا”، ضحكنا معا، ثم التقطنا صورا تذكارية لم أعد أحتفظ إلا بواحدة في ألبومي تهالكت واهترأت، ولم تعد بنفس حدة تقاطيع الماضي ..

قلت لباوليتو (وهو اللقب المحبب الذي كان يناديه به مدربه الكبير إنزو بيرزوت) : لاعب يخرج من السجن قبل شهرين على موعد نهائيات مونديال إسبانيا 1982، ولم يخض مباريات رسمية مع فريقه الجديد يوفنتوس، فجأة يستدعيه بيرزوت لخوض ثاني نهائيات في مشواره، كيف تحولت إلى فرس رهان رغم كل هذه الإرهاصات ..؟، أجاب روسي وهو يطلق تنهيدة من أعمق أعماقه قائلا : الأمر أشبه بالمعجزة، وقتها أحسست أنني انتهيت كلاعب كرة في سن السادسة والعشرين، جاءت دعوة المدرب إنزو بيرزوت لتنتشلني من واقعي الصعب، قلت لنفسي : مونديال إسبانيا فرصتك الأخيرة باولو لتعود مجددا إلى الحياة، لكن البداية لم تكن مشجعة، بل كانت مخيبة للغاية، ثلاثة تعادلات في الدور الأول أمام بيرو وبولندا والكاميرون، ثم بلوغنا الدور الثاني بطلوع الروح، وبفارق هدف عن الكاميرون، كل إيطاليا انقلبت ضدي ولم ترحمني ولو لدقيقة واحدة، كانوا يصفون إنزو بأنه مجنون وأبله، لأنه يصر على إشراك هذا الميت في جميع المباريات ..

أتذكر أن روسي صمت قليلا وهو يرتشف الماء مع الطعام في تقليد كلاسيكي يخالف زملاءه الذين كانوا يفضلون خمر العنب مع الطعام، ثم تابع : توقعت أن يتخلى بيرزوت عني قبل مباراتنا الأولى في الدور الثاني أمام بطل العالم الأرجنتين، كان زميلي إليساندرو ألتوبيلي واثقا أنه سيبدأ المباراة أساسيا، الضغوطات من حولي كانت شديدة تهد الأكتاف، لم يكن أحد يتوقع فوزنا على الأرجنتين، الحديث هناك كان ينصب حول الشاب دييجو مارادونا وعن هزيمة ثقيلة لإيطاليا ..قاطعت باولو قائلا : لكن بيرزوت خالف كل التوقعات ودفع بك مجددا إلى أتون نار مستعرة لا ترحم.. أومأ روسي برأسه متمتما : بالضبط لقد اختزلت شعوري في جملة، كنت كوقود لنار مستعرة، و كان علي أن أطرد كل الهواجس من رأسي، فلم يعد هناك ما أخسره، قلت لنفسي : إما أن تعود إلى إيطاليا حيا أو تدفن هنا في كاتالونيا ..

فازت الأرجنتين وقتها وأحدثت ما يشبه المعجزة بهدفين لواحد، لم يكن لروسي تأثير كبير على النتيجة باستثناء تدخله في الهدف الثاني الذي أحرزه كابريني في مرمى حارس الأرجنتين فيلول .. لكن الجحيم الحقيقي كان ينتظر البرازيل في المباراة الحاسمة المؤهلة لنصف النهائي، البرازيل التي قست على الأرجنتين بالثلاثة كانت فقط بحاجة إلى التعادل ، ولم يكن أمام إيطاليا من سبيل للخروج من هذا المأزق سوى التعويل على عبقرية المدرب إنزو بيرزوت .. يقول روسي عن تلك اللحظات الرهيبة التي سبقت المباراة : بيرزوت عبقري بحق، لقد وضع لنا خطة تتأسس على أخطاء البرازيليين، كان علينا أن ننتظرهم في منطقتنا وعند استخلاص الكرة يتحرر برونو كونتي وجراتزياني في حين أندس أنا بين قلبي الدفاع البطيئين في رد الفعل ..

كان حارس إيطاليا وقائدها العظيم دينو زوف يتبادل الشعارات مع قائد البرازيل سقراط، عندها حدق روسي في كتيبة طيور الكناريا، يقول روسي : قلت لحظتها يا إلهي كيف لنا أن نهزم هؤلاء الراقصين على جثث ضحاياهم ..؟، قدمت البرازيل بقيادة المدرب الألمعي تيلي سانتانا منتخبا رفيعا في المستوى، من حيث الجودة و تيرمومتر الأداء الجذاب والأخاذ ربما كان أجمل منتخب في تاريخ البرازيل، كان النهج الهجومي الجارف للبرازيل لا يرحم، لقد سجل لاعبوه في الدور الأول عشرة أهداف في ثلاث مباريات، ثم أضاف ثلاثة أمام الأرجنتين، لكن قطعة القماش البرازيلية الصفراء الفاقعة كانت تحوي نشازا في المؤخرة، حارس مرمى بدائي مهزوز اسمه (بيريز)، لم يفطن لنقطة الضعف الأشبه بنقطة ضعف أخيل سوى بيرزوت، المدرب الذي جسد الكتناشيو في أبهى صورها ..

قال لي روسي : كان علينا أن نبدو مستكينين وحذرين أمام البرازيل، شيء ما في داخلي كان يحفزني على خوض هذه المباراة الصعبة، أحسست أن وجهي قد استحال إلى قطعة جمر، وهذا طبيعي لقد كنت أرقص مع البرازيليين على صفيح من جحيم .. كانت إيطاليا تقتل إيقاع المباراة بفلسفة الضغط العالي الرهيب، ولعل هذا الأسلوب هز البرازيليين في الأعماق، لقد كان عليهم استقبال الهدف الأول لباولو روسي بطريقة مثيرة تدعو للإعجاب، نقلتان فقط في لمح البصر، ثم يرسل كابريني كرة عرضية بين قلبي الدفاع البرازيلي وروسي يضع رأسه أسفل قليلا ويكون الهدف الذي حرر الطليان من الشك الرهيب .. يقول روسي عن هذا الهدف: هذه توصية من بيرزوت، لقد كان علي دائما البقاء قريبا من قلبي الدفاع، نصيحة بيرزوت أثمرت هذا الهدف، أؤكد لك بيرزوت من سجل الهدف الأول وليس روسي ..

ومضة عبقرية من الفنان المدهش زيكو، يلتف مثل الثعبان ويخدع جلاده كلاوديو جنتيلي، ثم يبرق كرة في لفافة حلوى ومن زاوية ضيقة ومستحيلة يسجل الحكيم سقراط هدف التعادل ..” تضعضعنا بعض الشيء مع هدف سقراط، قلنا لقد بدأ هدير السامبا فكيف يمكننا إيقافهم ومنعهم مجددا من التسجيل، كان هذا في الواقع مستحيلا، لهذا قلت لنفسي يجب أن نبادر نحن ونضع البرازيل دائما تحت الضغط النفسي ..”، واحدة من تعليمات بيرزوت الخالدة التي لا تبارح ذاكرتي : “باوليتو .. كن قريبا من قلبي الدفاع .. إنهم يتبادلون الكرات الهاتفية كما لو أنهم يشربون الشاي في حفل سمر دون غطاء تكتيكي واضح.. انقض في الوقت المناسب ..”، ما كاد الشوط الأول ينتصف حتى تحققت نبوءة بيرزوت بشكل مذهل، كرة قصيرة من سيريزو نحو قلب الدفاع المتقدم لياندرو، روسي المتربص يخطف الكرة بسرعة ثم يتقدم في العمق، كان الحارس بيريز في حالة ما يعلم بها إلا ربنا، تردد في الخروج ثم أغمض عينيه أمام تسديدة محكمة لروسي سكنت المرمى ..” عندما قطعت الكرة من لياندرو، سرت قليلا ثم تباطأت، لأن الحارس البرازيلي دفعني لإعادة ترتيب حسابات وتقييم الموقف برمته، بطرف العين لاحظت تقدمه عشر خطوات عن مرماه، قلت لنفسي : يجب أن أسدد الآن، إنها اللحظة المناسبة ..”، في الاستراحة كان بيرزوت يزمجر مثل أسد هصور في غرفة الملابس، بدأ وجهه المقعر أكثر احمرارا من قطعة الجمر نفسها، كان يسدي نصيحة ديكتاتورية للمدافع كلاوديو جنتيلي :” لا تسمح لزيكو أن يتنفس أمامك، عليك أن تكون أقرب إليه من فانلته، فوزنا مرهون بمنع زيكو من اللعب على سجيته ..”، بالفعل كان الشوط الثاني شوطا ديكتاتوريا بامتيا، زيكو يحاول مرات الهروب من الجلاد جنتيلي، وكلما تفوق في المناورات أسقطه جنتيلي، ثم يضع يديه خلف ظهره وهو يبتسم للحكم، بلغت الدراما بين الاثنين ذروتها عندما طور جنتيلي من أساليبه العنيفة والمروعة، أدار زيكو صاحب الرقم عشرة ظهره للحكم الإسرائيلي أبراهام كلين شاكيا بقميص ممزق، ولم يأبه الحكم لصراخ زيكو، كان جنتيلي يهمس في أذن زيكو : كن رجلا يا بيليه الأبيض، ودعك من نواح النساء ..

رفع جنتيلي منسوب رقابته اللصيقة لزيكو، لكي تكسب البرازيل عليك باستفزازهم وإدخالهم في حرب نفسية، كان زيكو المعني الأول بهذه الحرب، شد وجذب وعرقلة ومطر من الألفاظ المسيئة، وأخيرا نال الجزار كارتا أصفر، ومن على خط التماس كان بيرزوت قد بدأ تجهيز المدافع الشاب بيرجومي ليؤدي نفس مهمة جنتيلي، بالنسبة لبيرزوت كان طرد جنتيلي يلوح في الأفق، لكن هذا لم يحدث ..” بالفعل كنا متأكدين من طرد جنتيلي، لكن الحكم الإسرائيلي كان كريما معنا في موقعة ساريا، ربما لو أنه كان يعلم أننا سنهدي الفوز بكأس العالم للبنان العربية بعد الاجتياح الإسرائيلي لجنوبها لطرد كل الفريق الإيطالي، قالها لي روسي وهو يضحك ..”

عند منتصف الشوط الثاني أطل حدثا جللا، مناورة برازيلية من اليمين تصل أخيرا إلى فالكاو، زيكو تحرك بذكاء جاذبا شيريا وجنتيلي وسرجينيو تكفل بكابريني وكلوفاتي، جانكارلو أنتونيوني كان بعيدا عن العمق منشغلا بملازمة سقراط، انفتحت ثغرة رهيبة من العمق، وحده زوف أدرك أن الخطر أصبح واقعا، سدد فالكاو قذيفة صاروخية محكمة مسجلا هدف التعادل ..” شددت سروالي من هول المفاجأة، لقد بدا وكأننا لا نريد لهم رد الفعل، كنا نمتلك قرار الضربة القاضية دون ترجمة حقيقية، بالنسبة لي قلت لزملائي: يجب أن نبدأ من جديد، وقد فعلنا ذلك بطريقة هتشكوكية ..”، مع حلول الربع ساعة الأخير، تحصلت إيطاليا على ركنية من الجهة اليمنى، رفعها برونو كونتي الأعسر، ضلت طريقها ثم سدد تارديلي الكرة الضالة بطريقة اعتباطية، من حسن حظ روسي كان في المكان المناسب، وحول الكرة بلمسة خاطفة إلى هدف ثالث قاتل ..

“هذه اللقطة تصلح لفيلم رعب، كانت معمعة حقيقية، حدسي أو ربما حسن طالعي أنبأني أنني تموضعت في مساحة سحرية بعيدا عن أعين الرقابة البرازيلية، وعندما سددت بلمسة واحدة، ركضت فرحا من دون أن أتابع الكرة وهي تحتضن الشباك، كانت المرة الأولى التي أرى فيها لاعبي البرازيل محبطين تماما، عندها عرفت أن العودة هذه المرة مستحيلة، لكنني لن أنسى الكرة التي أنقذها حارسنا زوف في الثواني الأخيرة على خط المرمى بعد ضربة رأسية متقنة للياندرو، اتسعت عيناي وازدردت لعابي بصعوبة وقتها وقلت : أوووه ماي جاد ..!”، انتهت المباراة الخالدة بفوز دراماتيكي لإيطاليا بفضل ثلاثية روسي، ثم تابع روسي بيانه التصاعدي فسجل هدفين في مرمى بولندا في نصف النهائي، ثم افتتح التسجيل في المباراة النهائية أمام ألمانيا الغربية من أصل ثلاثة أهداف فاز بها الآزوري، فتوج الزرق أبطالا للعالم وروسي هدافا للمونديال بستة أهداف في ثلاث مباريات فقط ..

مات باولو روسي في ظروف غامضة، شعرت بحزن عميق تجاهه وأنا أتأمل صورتي معه، وعندما قررت أن أهدي عشاقه مادة خاصة عن هذا الهداف، لم أجد أفضل من ملحمته التاريخية أمام البرازيل، من منكم لا يعرف شيئا عن باوليتو الراحل عن هذه الدنيا، ما عليه سوى مشاهدة أهدافه الثلاثة القاتلة في مرمى سحرة العالم، روسي سيبقى وشما في الذاكرة، وكلما نستحضر كأس العالم بإسبانيا لن تكون هناك ذكرى تستحق أن تروى لأجيالنا سوى ذكرى باولو روسي مع أهدافه الستة القاتلة ..!

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى