السجين..الذي صنع المجد وغادر في صمت !!

تقرير – محمد سالم الغزالي

لم يكن شتاء يناير 1980 بارداً بالنسبة للكرة الإيطالية بل كانت الأجواء ملتهبة وعلى صفيح ساخن، إذ عانت من مأزق قانوني رهيب وفضائح بالجملة أصبحت تهدد استقرارها واستقرار لاعبين الكالشيو والمنتخب وحتى الحكومة الإيطالية نفسها التي لم تكن بمنأى أيضاً عن ذلك، وقتها اندلعت قضية التلاعب الشهيرة “توتونيرو” الخاصة بالمراهنات الرياضية..

ثقافة الرهانات منذ زمن بعيد كانت جزءاً من النسيج الاجتماعي والاقتصادي في إيطاليا، من بينها رهانات كرة القدم حيث اكتسبت شهرة واسعة في سبعينات وثمانينات القرن الماضي، بل كانت مدعومة من الحكومة وتقام تحت نظام قانوني يسمى “التوتو كالتشيو” ويذهب قسم كبير من الأرباح لخزينة الدولة، ولكن الجانب المظلم أن بعض هذه الرهانات كانت تخرج من الإطار القانوني وتدار من قبل منظمة إجرامية كبيرة في نابولي جعلت من الدوري الإيطالي بؤرة فساد ومصدر رئيسي يدر عليها الأموال من خلال إغراء الحكام ورؤساء الأندية وبعض اللاعبين بالتلاعب بنتائج المباريات..

ومن المتورطين كانت هناك شركتان إيطاليتان ذات نفوذ كبير وتأثير واضح في عجلة الاقتصاد الإيطالي، واتهم فيها نادي لاتسيو وميلان بالتواطؤ مع كبار المراهنين وتم إسقاطهما إلى الدرجة الثانية، تورط عدة لاعبين كذلك في هذه القضية من بينهم برز اسم لاعب يبلغ من العمر 23 عاماً بدأ في اكتساب شهرته بالوسط الرياضي حينها، ويدعى باولو روسي تمت إدانته والحكم عليه بالسجن 3 سنوات.

هذا الإيقاف كاد أن ينهي مسيرة روسي مبكراً بعد أن بدأ نجمه بالبزوغ مع نادي فيتشينزا حينما ساهم في انتشاله من دوري المظاليم إلى السيريا آي بأهدافه ال26 التي أحرزها في أول ظهور معه في ذلك الموسم، ولم يخيب آمال رئيس النادي فارينا الذي راهن عليه بزنتدابه من نادي يوفنتوس بعد أن كان حبيساً لمقاعد البدلاء، ورغم اعتراض جماهير الفريق على التعاقد مع لاعب لم يشاهده أحد من قبل يسجل الأهداف إلا أن روسي كان في محل الثقة عندما صنع للمدينة الفرح ورسم الابتسامة على وجوه عشاق فيتشينزا بالصعود للكالشيو ، وبدا لباولو أن الطريق مفروشاً بالورود لمواصلة تألقه وتحقيق ما تصبوا إليه نفسه وطموحاته في عالم كرة القدم إلا أن القدر كان له رأيً آخر ..

تم الزج بباولو الروسي في السجن رغم عدم وجود الأدلة الكافية التي تثبت إدانته، وفي هذا الصدد يقول مدافعاً عن نفسه: “كان يجب أن يدفع الثمن شخص مهم، وفهمت بسرعة أنني الضحية وكبش الفداء، لقد أضاعوا أغلى سنتين من عمري”، لكن ما لم يدركه روسي إلا بعد فوات الأوان هو أنه “عندما يأتي الطوفان تنجو الحيتان وتموت الأسماك الصغيرة” ببساطة تلك هي إحدى مبادئ المافيا الإيطالية..

عامان قضاها الفتى ذو الملامح الشاردة خلف القضبان إلى أن أتى موعد مونديال أسبانيا 1982، حينها كان الشعب الإيطالي يرزح تحت وطأة الجوع والفقر وسط فترة من العنف والاضطرابات السياسية والاجتماعية التي كانت تهدد كرسي رئيس وزراء حكومة إيطاليا آنذاك ساندرو برتيني، ولأن كرة القدم أفيون الشعب كان برتيني يرى أن فوز إيطاليا بكأس العالم سيُهدئ من احتجاجات الشعب وغليانه، فطلب مقابلة مدرب المنتخب آنذاك إنزو بيرزوت وطالبه بالفوز بالكأس الذهبيه بأي ثمن، إلا أن بيرزوت كان لديه طلب غريب وهو اصطحاب باولو روسي الذي كان يقضي فترة عقوبته في السجن معه إلى مونديال اسبانيا، وقد تم له ما أراد، وبقرار رئاسي تم تمريره من تحت الطاولة تم تخفيف عقوبة روسي وإخراجه من السجن قبل أشهر قليلة من بداية كأس العالم، ومع إعلان آنزو بيرزوت قائمة اللاعبين المشاركين في كأس العالم كان باولو روسي يتصدر تلك القائمة وسط عاصفة من الاحتجاجات طالت المدرب، فكيف للاعب لم يركل كرة القدم منذ أشهر طويلة ينضم لتشكيلة المونديال، ولكن الطريف في الأمر هو قيام نادي يوفنتوس بالتعاقد مع باولو وهو في السجن الأمر هذا خفف الضغط نوعاً ما على المدرب الإيطالي، وقبل البطولة تم سؤاله في إحدى المؤتمرات الصحفية حينها: “هل جُنِنت لتقوم باستدعاء لاعب عاطل وخريج سجون للمونديال؟ بيرزوت أجاب: “بعد نهاية المونديال .. سأكون العاقل الوحيد”.

حانت ساعة الحقيقة ودقت طبول المونديال، حيث أقيمت البطولة بنظام المجموعات ووقعت إيطاليا في الدور الأول مع مجموعة تضم البيرو وبولندا والكاميرون ولم تقدم المردود المتوقع وتأهلت بشق الأنفس باولو روسي كان تائهاً ويجري كالشبح في الملعب، في الدور الثاني كان على إيطاليا أن تقع في مجموعة الموت كما أُطلق عليها برفقة الأرجنتين بقيادة أسطورتها ماردونا المتعطش للقب، والبرازيل الحصان الذي راهن عليه الجميع للفوز بكأس العالم لأنه كان يضم بين صفوفه ألمع وأمتع النجوم الذين مروا بتاريخ السيليساو بقيادة اللاعب الاستقراطي سقراط وفالكاو وزيكو أو “بيليه الأبيض” كما كان يطلق عليه..

كان طموح الجمهور الإيطالي الخروج من البطولة بأقل الأضرار ، ولأن النجوم تتوهج في الليالي الحالكة السواد كان نجم باولو روسي العلامة التي اهتدى عليها الطليان في رحلتهم نحو اللقب، كان اللقاء الأول أمام الأرجنتين وتمكنت إيطاليا من الفوز بنتيجة 2/1 في ليلة روض فيها المدافع الايطالي الشهير كلاوديو جنتيلي جموح ماردونا..

وكانت المواجهة الأخيرة الفاصلة في هذه المجموعة بين إيطاليا والبرازيل للعبور لنصف النهائي، كانت كفة الترشيحات تُميل للبرازيليين بعد الكرنفال الكروي والعروض المميزة التي قدمها نجوم السامبا في مباريات البطولة وتأهلهم من مجموعة الدور الأول بالعلامة الكاملة، ولكن باولو روسي كان له رأيً أخر عندما سجل هاتريك في مرمى البرازيل وأقصاهم من البطولة، وأشعل الحسرة في قلوب الجماهير البرازيلية التي كانت تمني النفس باللقب خصوصاً أنها تملك تشكيلة من ذهب..

وعن ذكريات هذه المباراة بالتحديد يقول روسي: ”زرت البرازيل عام 89 لكي أشارك في دورة ودية، دخلت الملعب وكان مكتضاً بأكثر من 40 ألف مشجع بدأوا بشتمي وإلقاء قشور الخضراوات والفواكه علي، وفي صباح اليوم الموالي لما صعدت مع سائق التاكسي وعرف أنني باولو روسي طلب مني النزول فوراً وتطلب مني الأمر وقتاً طويلاً من النقاش لكي أقنعه بأخذي للفندق الذي أقطن فيه! وعرفت حينها مدى كره البرازيليين لي، أهدافي الثلاثة في شباكهم لن ينسوها للأبد”.

تأهلت أيطاليا إلى المربع الذهبي لتضرب موعداً مع منتخب بولندا العنيد في ليله كان فيها السجين على الموعد واستطاع تسجيل هدفين قاد بهما الأزوري نحو النهائي لمقابلة ألمانيا على ملعب “سانتياجو برنابيو”، وسط حضور جماهيري طاغي يأتي على رأسه ملك وملكة إسبانيا، بالإضافة إلى رئيس الحكومة الإيطالية ساندرو برتيني أقيم نهائي البطولة..

بدت المباراة وانتهت سلبياً في شوطها الأول بعد أن أضاع كابريني ركلة جزاء من جانب المنتخب الإيطالي، ولكن الإيطاليين كانوا أكثر رغبة بالفوز خصوصاً بعد الجرعة المعنوية التي جرت في أوردتهم بعد الانتصار على الأرجنتين والبرازيل والتأهل على حسابهم في مجموعة الدور الثاني..

افتتح باولو روسي التسجيل لإيطاليا في الشوط الثاني، أعقبه زميله تارديللي بالهدف الثاني الذي ما زالت صرخته الشهيرة يتردد صداها في أنحاء أيطاليا وهو يجري في الملعب احتفالاً بالهدف، قبل أن يختم زميلهم التوبيللي مهرجان الاهداف في مرمى الألمان، ومع كل هدف كان الرئيس الأيطالي ساندرو برتيني يقفز من كرسيه فرحاً في المنصه متجاوزاً كل البروتوكولات الرئاسية المتعارف عليها..

انتهى المونديال وتوجت إيطاليا باللقب بعد صيام دام 44 عاماً كان لباولو روسي نصيب الأسد في تحقيقه، توج روسي كأفضل لاعب للبطولة، وحقق لقب الهداف برصيد 6 أهداف، واختير في نفس العام كأففضل لاعب في العالم من جانب الاتحاد الدولي لكرة القدم، وحقق جائزة الكرة الذهبية كأفضل لاعب في أوروبا، إنجاز وراء إنجاز ولقب تلو الآخر كان يضيفها باولو روسي لسجله الشخصي، وكأنه يرد اعتباره للاتحاد الإيطالي وقضاءه ولكل من اتهمه وورطه في قضية كان يصر دائماً بأنه بريء منها..

قبل أيام قليله توقفت حافلة باولو روسي عند المحطة الأخيرة وانطوى فصل من فصول الساحرة المستديرة، رحل روسي وكأن القدر أبى إلا أن يودع عالمنا في صمت رهيب بعيداً عن ضجيج العالم الصاخب الملتهب بقضاياه الاجتماعية والسياسية والاقتصادية مُخلفاً إرثاً كروياً، سيظل خالداً في أذهان عشاقه، وحكاية من أجمل حكايات الجلد المدور، من مذنب إلى بطل قومي ومن السجن إلى قمة المجد، الرجل الذي كانت يديه مكللة بالأغلال ليخرج ويعانق بهما ذهب كأس العالم فيما بعد ..

صاحب هذه الحكاية قال عنه الشاعر الفلسطيني الراحل محمود درويش ” شيطان نحيفٌ لا تراه أبدا إلا بعد أن يسجل الهدف .. تماما مثل طائرة القصف لا تراها إلا بعد إلقاء القنابل ! ” ..

هذه الكلمات قالها درويش بعد اللفته الإنسانية من جانب بعثة المنتخب الإيطالي التي أهدت لقب كأس العالم إلى المقاومة اللبنانية والشعب اللبناني الذي كان يئن تحت وطأة الحصار الإسرائيلي آنذاك..

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى