بيلباو.. الراقص على أطلال الريال والبرشا

كتب- محمد العولقي

أتلتيكو بيلباو، فريق من إقليم الباسك، يصدر ولا يستورد، يعيش على رومانسية كرة زمان، حيث الولاء للإقليم يفوق كل الإغراءات الخارجية، حصن نفسه من تداعيات العولمة، ورفض تزييف هويته الاحترافية في زمن المال والنفوذ والعبث بالهوية الوطنية وسطوة المؤسسات العملاقة على أخلاق ومبادئ كرة القدم، ظل وفيا لأبنائه، وظل أبناؤه أوفياء لتقاليد إقليمهم، يرحل من النادي الباسكي من يرحل، ويذهب من لاعبيه من يذهب، لكنه لا يهتز، ولا يلجأ لمساعدة عابرة من هنا أو هناك مهما تكالبت عليه المحن والفتن، الباسك بالنسبة لهم ثروة شعب، ووطن أمة، وهوية دولة ..

وعندما جاء المدرب مارسيلينو جارسيا قبل أيام قليلة ليحل إشكالية فنية وتكتيكية، كان بيلباو يستعيد هويته وشخصيته وإرثه التاريخي مع التقاليد والأعراق، لم يكن المدرب الجديد يحتاج لفلسفة جديدة، لم يكن أمامه سوى العزف على وتر الوطنية الحساس، والنفخ في روح الفانلة المخططة بالأبيض والأحمر معنويا، فقط أحيا مارسيلينو هوية الفريق، وروح الإقليم في نفوس لاعبيه، أيقظ في دواخلهم حمى الباسك، وكل الحس البيئي لمنطقة ترى أنها خلقت لتكون وطنا باسيكا نقيا لا يقبل أمصال التهجين، والنتيجة أن بيلباو تغدى أولا بريال مدريد، ثم تعشى ببرشلونة في نهائي السوبر ..

مارسيلينو ليس ساحرا أو حاويا يخرج الحلول التكتيكية من قبعته فيتحول بيلباو من أرنب مرعوب إلى أسد هصور يزمجر في الغابة ويلتهم كبيري إسبانيا ريال مدريد وبرشلونة ببرستيج الشوكة والسكين، لكنه فقط عالج الآثار النفسية للاعبي بيلباو، ثم حقنهم بمصل الرغبة المتوحشة في تكسير عظام المنافس بلا رحمة، مع الحفاظ على إيقاع اللعب الذي يتأسس على مبدأ احتلال مساحات الملعب، وتحويل مربعاته إلى متاهة ألغام الداخل فيها مفقود والخارج منها مولود ..

بيلباو لا يمتلك ثراء بشريا يساوي ميزانية دولة عظمى مثل ريال مدريد، ولا يمتلك بنكا مفتوحا يشتري لاعبا قبل أن يرتد إليه طرفه مثل برشلونة، هو فقط فريق الإقليم الفقير ماديا والغني بإخلاصه لتقاليده ومبادئه ورصيده الوطني الكبير.. جاء مارسيلينو جارسيا يسعى من أقصى المدينة، جاء محملا برغبة في إشعال فتيل الوطنية والهوية الباسكية التي دمرها سلفه، جاء ليعيد ترميم الواجهة النفسية للاعبين وتوظيف قدراتهم لكن وفقا وروح معنوية حماسها المشتعل يأكل البلوجرانا والميرنجي وكل ألوان الطيف الإسباني..

قفزت علامات الدهشة والتعجب إلى القمة عندما كشف بيلباو عن شراسة بدنية خارقة للعادة، كانت القدرات الذهنية للاعبين مثل حطب يرمى في مدفأة الحماس، اختال في السوبر مثل الطاووس، وهو يرقص على بقايا أطلال الريال والبرشا، اندهشنا حقيقة من منسوب الطاقة البدنية الخارقة، ومن براعة الضغط العالي الشرس لأكثر من تسعين دقيقة أمام ريال مدريد، ولأكثر من مائة وعشرين دقيقة في النهائي أمام برشلونة ..

تعجبت حقيقة لأن لاعبا ممتازا مثل إيكر مونايين أحال جميع لاعبي برشلونة، وأولهم ليونيل ميسي إلى أوراق فنية بالية ومهترئة، كان يؤدي دور الجوكر، يصنع الفرص الخطيرة ، ويوزع هداياه في لفافات حلوى، ويأتي بالربيع من قلب الزمهرير المتجمد المشاعر والأحاسيس، واستمتعت بخفة ورشاقة المهاجم الأسمر الذي دفعته أمواج الرحيل صغيرا إلى ضفاف الباسك إيناكي ويليامز، وهو يلهو بالكرة في وجود لاعبي الملايين جريزمان وديمبيلي ودي يونج وكأنه قط يعبث بقطعة قماش، وبالتأكيد لست بحاجة إلى إغداق المزيد من الثناء على المهاجم الصلب قاهر الريال راؤول جارسيا، الأمداد الذي غره سراب أتلتيكو مدريد ذات يوم قبل أن يعود ويلبي نداء الإقليم، ولن نسترسل كثيرا في عد محاسن فينسيدور وداني جارسيا وأوسكار دي ماركوس، والظهيرين البارعين أندير كابا يمينا وبالنسيجا يسارا، لأن الحديث عن قدرتهم على تجسيد مبادئ الضغط العالي مجرد طحن للطحين بعد أن طارت طيور بيلباو بكل حبات الأسطبل العجوز ..

عمل مارسيلينو جارسيا على إحياء شخصية بيلباو التي اشتهر بها كفريق الأسرة الواحدة، لكن العمل الحقيقي للمدرب يكمن في أنه كان يؤمن تماما أن الفوارق البدنية في إسبانيا حيث اللعب الأنيق تصنع الفارق، وتعوض الفوارق المهارية والقيمة التسويقية، لهذا السبب اشتغل مارسيلينو على العامل البدني كثيرا، لأنه العامل الذي سيصل بمنسوب اللياقة النفسية إلى الذروة .. لم تكن هناك إشكالية في تطبيق شاكلة 4/4/2 طالما هي طريقة تستمد ثباتها وعنفوانها من العوامل البدنية، ولم تكن تلك الشاكلة هاجسا أبدا لأن طابع الانضباط التكتيكي المغلف بوقود الحماس حول بيلباو إلى آلة رهيبة تدور وتطحن وتنتج الحلول حتى في أشد اللحظات عسرا على الفريق ..

يمكن للمدرب مارسيلينو البناء على إنجازه الكبير في بطولة السوبر وقلب المعطيات في لاليجا رأسا على عقب، بالنظر إلى دلالات أن الفريق يمتلك أدوات لعب أكثر شراسة وتعطشا للألقاب من ريال مدريد وبرشلونة، وإذا حافظ لاعبو بيلباو على الثبات الانفعالي، ووثقوا جيدا في قدراتهم على قلب الموازين، ففي تصوري أن بيلباو يمكنه أن ينافس أتلتيكو مدريد بدلا من ريال مدريد أو برشلونة، وهنا سيقفز التشويق والإثارة في الدوري الإسباني إلى محاكاة فيلم (الطيور) المرعب الذي أخرجه النابغة ألفريد هتشكوك في الستينيات من القرن الماضي ..!

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى