آرسين فينجر .. الديك الفصيح لن يصيح..!

  • توووفه- محمد العولقي 

من هو أفضل وأنجح مدرب عالمي مر على تاريخ بطولات (البريمر ليج) قديما وحديثا ..؟ سؤال دائما ما يقفز إلى الأذهان، لأنه ببساطة دائم التكرار على موائد الشطار، والإجابة عنه لا تجدها واضحة بالدليل واليقين، والسبب أن عشاق كرة القدم من فنيين وتقنيين وأكاديميين يختلفون حول هوية الأفضل والأنجح، ورغم كل التباينات إلا أن القائمة الحصرية للمدربين الذين أثروا الفرق الإنجليزية قليلون، ربما لا يتجاوزون أصابع اليدين.

ولعل في طليعة هؤلاء المدربين الأجانب بالذات يقفز اسم المدرب الفرنسي الوسيم آرسين فينجر، مدرب فريق الأرسنال اللندني، الرجل الذي وضع حدا فاصلا للقطيعة بين الموضة الفرنسية والبرودة الإنجليزية، ويتفق السواد الأعظم من عشاق الساحرة المستديرة على أن المدرب الفرنسي المهذب ذا النظرة الفنية الثاقبة يحتل مكانة مرموقة في قائمة أفضل المدربين، وربما أكثرهم شهرة وقدرة على ربط فلسفة أفكاره بسلوكه القويم، الذي طالما كان مثالا يحتذى به.

اقرأ أيضا: أخبار إيجابية بشأن حالة فيرجسون الصحية

آرسين فينجر

لقد قضى الفرنسي آرسين فينجر 22 عاما في خدمة (الجانرز)، كان فيها خير من يوجه المدافع اللندنية في الدوري الإنجليزي لتضرب القريب والبعيد المدى بلا هوادة، ولقد نقل الفريق اللندني من السفح إلى السطح، بفضل ما يكتنزه من فنون في التعامل مع اللاعبين، وعبقرية لا تبارى في صناعة النجوم وتصديرها إلى الدوريات الكبرى بأسعار باهظة، نظرة فاحصة لا تخطئ الهدف، لا يدانيه فيها مدرب آخر، سوى الصياد العجوز الاسكتلندي السير أليكس فيرغسون، قيدوم فريق مانشستر يونايتد، والذي عمر في منصبه مع اليونايتد لما يزيد عن الثمانية والعشرين عاما.

اقرأ أيضا: ماذا قال فينجر عقب توديع جماهير أرسنال؟

في شهر أغسطس من العام 1996، وفي وقت بلغ الهجير مداه، تفجرت فضيحة مدرب أرسنال جورج جراهام، الذي اعترف بتلقيه رشوة من سمسار اللاعبين النرويجي روني هاج، أجبر جراهام على إثرها  تقديم استقالته، وهو المدرب الذي أعاد الأرسنال منذ منتصف الثمانينيات إلى جادة البطولات المحلية، بعد قطيعة دامت لأكثر من عقدين، وفي يوم الثامن والعشرين من سبتمبر من ذات عام الفضيحة وصل إلى ملعب (هايبري) الشهير مدرب فرنسي مغمور في عمر الخريف، قادما من نادي غرامبوس الياباني، وعم السخط والإحباط في أوساط محبي فريق الأرسنال، سخروا من نائب رئيس النادي ديفيد دين عراب هذه الصفقة الغامضة، كان السخط الإنجليزي قد تحول إلى رأي عام.

والسبب تلك العداوة التاريخية العجيبة بين الإنجليز والفرنسيين، عداوة أدركها المدرب المغمور آرسين فينجر بمجرد أن وطأت قدماه ملعب (هايبري)، حيث كان في انتظاره ما لا يقل عن ثلاثين ألفا من محبي (الجانرز)، راحوا يوزعون التعليقات الكاريكاتيرية الساخرة واللاذعة بحق الفرنسي الذي لم يكن معروفا من قبل في ملاعب القارة العجوز ، انقبض صدر فينجر وتسارعت نبضات قلبه مع هذا الاستقبال العدائي، شرد فينجر ببصره بعيدا في مدى يلفه الضباب من كل حدب وصوب، ثم عقد حاجبيه الرقيقين وهو يستذكر مقولة تاريخية للكاتب الروائي جوليان بارنز : “لو كنت تمتلك القدرة على اختراع أمة تزعج البريطانيين،فلربما كانت هذه الأمة هي فرنسا”.

اقرأ أيضا: إنجلترا قد تشارك بخمسة فرق في دوري أبطال أوروبا

للوهلة الأولى شابت تصرفات فينجر غريزة الارتباك والدهشة معا، لقد كانت صدمته الحقيقية لا تكمن فقط في تلك الكراهية التي باعدت بين ضفتي بحر المانش، لقد صدم فينجر من طريقة اللعب نفسه، وعندما وضع فينجر الوشائج العشر التي تستند عليها فلسفته في اللعب، لم يكن غافلا عن رتابة الأداء، ونمطية لعب يتلخص في إرسال الكرات الهوائية من حارس المرمى إلى المهاجم، عندها أيقن أن كبار الفنيين في القارة العجوز لم يظلموا أرسنال، عندما نعتوا كرته بالباردة و المملة والرتيبة، كرة جامدة تبعث على السأم، فوجئ نائب رئيس النادي ديفيد دين بطلب غريب من فينجر، يوصيه بضرورة التعاقد مع لاعب صاعد واعد متوعد في عمر الزهور اسمه باتريك فييرا، ابن الثامنة عشرة.

آرسن فينجر في آخر لقاء على ملعب الإمارات

بعدها بعامين كان فينجر يضرب ضربته التاريخية بالتعاقد مع مواطنه النفاثة تيري هنري، قادما من يوفنتوس الإيطالي،  بعد نصف موسم مخيب تماما مع السيدة العجوز، وبنى آرسين فينجر منظومته الفنية والتكتيكية على كتيبة شابة متعطشة للانتصارات، وبدأ عمل فينجر يؤتي ثماره مبكرا، لقد زال الجفاء بينه وبين أنصار الفريق اللندني، وزال التوتر بينه وبين الإعلاميين، واستطاع فينجر أن يكسب التحدي على جبهتين بكفاءة يحسد عليها، جبهة الملعب، حيث بدأ الفريق اللندني ينفض غبار كرته المملة، حين استبدلها بكرة قدم أنيقة وراقية تحاكي فنون اللعب الكرنفالي الذي يعتمد على مبدأ الإقناع والإمتاع، وجبهة مع الإعلام الإنجليزي الذي يصعب ترويضه.

فكيف سيكون الحال مع مدرب ينتمي لدولة بينها وبين الإنجليز ما صنع الحداد؟، بمقدرة تبعث على التقدير والإعجاب كسب آرسين فينجر جولته مع الإعلام الإنجليزي ، وأصبحت مؤتمراته الصحفية محاضرات لفيلسوف يسقي حديقة الإعلام كل يوم فكرة جديدة، ويزرع في الحقل الإعلامي سوسنة تسر الناظرين.

أخيرا أصغى الإنجليز للمدرب الوسيم المهذب، الذي وضع أرسنال على أعتاب مرحلة من التألق المحلي اللافت، تسارعت نتائج الأرسنال، وأخذت في التدرج والارتقاء إلى أن فرض هيمنة مطلقة على البطولات المحلية، كان مصدر الإعجاب بفريق أرسنال يعود إلى  أسلوب لعبه الفريد عند الإنجليز، بدأ وكأن فينجر قد أحال طريقة لعب الإنجليز التقليدية إلى مزبلة التاريخ، وتساءل مسؤولو الكرة الإنجليزية: أي عبقرية يمتلكها آرسين فينجر، حتى يقدم للعالم هذه الخلطة السحرية التي لا تمل منها العين ..؟.

جلس الإنجليز على مقاعد الدرس أمام البروفيسور آرسين فينجر يطلبون منه ضخ المزيد من الدماء اللاتينية الحارة في جسد وسرايين وأوردة الكرة الانجلوساكسونية الباردة، ولم يكذب آرسين فينجر خبرا، وهو يشرع أبواب مدرسته اللاتينية في الهايبري، لقد بات فريق الأرسنال بعد عامين من التعاقد مع فينجر ممتعا للغاية، أصبح يضرج بين سلاسة الأداء وفاعلية الاحتفال بكفاءة عالية، كان أبرز ما يميز هذا البروفيسور الكروي عقليته الفذة، ثم حدسه الرفيع الذي يحول أنصاف المواهب والمغمورين إلى نجوم تتزين بها لندن، وذخيرة حية تجعل شباك المنافسين أمام مرمى مدافع الأرسنال.

 اقرأ أيضا: مورينيو يتوصل لاتفاق مع مصلحة الضرائب الإسبانية لتفادي عقوبة السجن

وعندما جلب فينجر نجمه الشاب تيري هنري من يوفنتوس لقاء عشرة ملايين جنية ، ضحك النقاد والفنيين من مغامرة كهذه، لكن هنري فجر غضبه أهدافا ورسومات حركية فاقت التصور، وفي ظرف موسمين فقط كادت شهرة الفتى الفرنسي اليافع تتفوق على شهرة شارلي شابلن حبيب كل الإنجليز، وعندما شعر فينجر أن مخزون هنري المهاري والبدني بدأ ينفد باعه لفريق برشلونة بصفقة قياسية في تاريخ النادي بلغت أكثر من 35 مليون جنية إسترليني، وفينجر يمتلك غريزة في صناعة وتصدير النجوم، لقد جعل من نادي عمال مصنع الأسلحة منتجا إيراديا ضخما يضخ في مواسير خزينة النادي الملايين، وهو المدرب الحاذق الذي يشتري اللاعبين المغمورين بثمن بخس، ثم يبيعهم بأرقام فلكية ولا في الخيال، وخير مثال على ذلك نجم باريس سان جرمان الصاعد نيكولاس أنيلكا الذي اشتراه فينجر مقابل نصف مليون جنية، وبعد أقل من موسمين باعه لفريق ريال مدريد لقاء 25 مليون جنية.

وبين أول صيحة للديك الفرنسي في ملعب هايبري بلندن في 28 سبتمبر عام 1996، وآخر صيحة لهذا الديك الفصيح في ملعب الإمارات بحي (أشبيرتون جروف) في الخامس من مايو 2018، يطوي فريق أرسنال صفحة مدرب فرنسي انحنى له الإنجليز رغم العداء لكل ما هو فرنسي، مخلفا تاريخا حافلا بالألقاب، وخزينة مالية تعاني من التخمة، لم يسبق لأي مدرب أشرف على أرسنال وحقق له ثلاث بطولات دوري، وسبعة ألقاب في بطولة كأس انجلترا (أقدم مسابقة في العالم)، بالإضافة إلى متفرقات في السوبر والكارلن كب.

يغادر آرسين فينجر بلاد الضباب، وقد رسخ في الأذهان مدرسة لاتينية اجتاحت بريطانيا والعالم، فنادي المدافع الذي تأسس عام 1888 عن طريق عمال مصنع الأسلحة لن يتوقف طويلا عند حقبة هيربرت تشابمان وخطته الدفاعية المفلسة، ولن يلتفت لحسنات مدرب الستينيات بيرتي مي، ولن يغتر ببعض النجاحات على الهامش التي سجلها جورج جراهام، لكن الأرسناليين وكل الإنجليز سيتوقفون كثيرا عند الملاحم الكروية التي صاغها الفرنسي آرسين فينجر ابن مدينة (ستراسبورغ)، المولود في الثاني والعشرين من أكتوبر عام 1949.

لا أحد يعلم بما ينتظر الأرسنال بعد رحيل ديكه الفرنسي الفصيح، هل سيتحول آرسين فينجر إلى مجرد ذكرى لمدفع ستحنطه المتاحف؟ أم أن مدافع الأرسنال ستبقى فوهاتها مصوبة إلى حيث يسكن الغريم توتنهام هوتسبير ..؟، أيا كان المصاب الجلل الذي أصاب عشاق الأرسنال برحيل فينجر، تبقى هناك حقيقة سيخلدها التاريخ مدى الحياة، حكاية رجل أنيق من بلاد الموضة روض الإنجليز وسلب عقولهم وألبابهم، طابعا على خد الكرة الإنجليزية الباردة شامة ساخنة لن يمحوها الزمن ..!

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى