التربة المالحة لا تنبت ورودا

كتب- محمد الغزالي

لم يخطر ببال ذلك الفتى الصغير ذي الجسد النحيل والبشرة السمراء والشعر المجعد وتقاسيم الوجه الهادئة الذي تكسوه مسحة من الجدية والصرامة وهو يداعب كرة القدم بين أقرانه في حواري مدينة صلالة أن يرتقي سلم النجومية والشهرة سريعاً وأن يشغل الناس والإعلام الرياضي المحلي والعالمي ضجيجاً ويجعلهم يتحدثون عنه بكل إطراء ويكيلون عبارات المديح والثناء على موهبته الكروية الفريدة من نوعها وهو لم يتجاوز سن ال17، كذلك لم يكن أحد يتوقع بعد صعود نجم هذا الفتى بسرعة البرق وفي زمن قياسي أن تغتال موهبته وتنطفئ سريعاً ويكون خارج دائرة الضوء والاهتمام وهو من كانت تعقد عليه الجماهير العمانية الكثير من الأمال وتمني النفس بأن يكون حامل لواء الكرة العمانية وقائِدها المستقبلي في البطولات والاستحقاقات الخليجية والعربية والعالمية.

هذا هو واقع الحال للمتتبع لمسيرة محمد عامر الكثيري الذي بدأ يشق طريقه وهو في سن ال13 عاما بعد أن اصطادته عيون كشافي ومراقبي نادي مرباط المتجولين بين أزقة مدينة صلالة والمرتادين لشواطئها التي تعج بمواهب لطالما شرفت الكرة العمانية وأسعدت جماهيرها فقرروا أن يضموه لفريقهم ولأنه من مدينة صلالة فقد كان يقطع 140 كم يومياً من أجل التدريبات وخوض المباريات مع فريقه، ولكن انطلاقته الحقيقية كانت في انتقاله إلى نادي النصر العماني عام 1995 وكانت أول مباراة يخوضها معه نهائي كأس صاحب الجلالة السلطان قابوس ضد نادي الأهلي وانتهت بفوز النصر 3/1 وقدم محمد عامر أداء جيدا في تلك المباراة فكانت بداية انطلاقة حقيقية له مع ناديه الجديد، وبطاقة عبور إلى قلوب الجماهير.

أما مشواره الرياضي مع المنتخب فقد كان في عام 1994 حيث تم استدعاؤه إلى صفوف المنتخب الوطني للناشئين للاستعداد لتصفيات أمم آسيا من قبل المدرب الوطني عبدالرحيم الحجري أنذاك قبل أن يخلفه المدرب الإنجليزي جورج سميث ويستلم قيادة تدريب المنتخب في التصفيات الآسيوية والتي اختير فيها محمد عامر كأفضل لاعب، بعد ذلك جاءت المشاركة المتميزة والعطاء الزاخر لنجمنا في كأس العالم للناشئين في الإكوادور عام 1995 برفقة ذاك الجيل الذهبي الذي شرف الكرة العمانية وسطر أروع اللحظات الكروية الجميلة التي مازالت ذكراها العطرة عالقة في أذهان الجماهير، حيث افتتح المنتخب مشواره في البطولة بفوزه على كندا 3/1، سجل منها محمد عامر اثنين وصنع آخر واختير أفضل لاعب في المباراة، ثم جاءت المباراة الثانية أمام منتخب ألمانيا القوي الذي كان يرشحه الجميع لتجاوز منتخبنا بسهولة ولكن كان لمحمد ورفاقه كلمة أخرى حيث تغلب منتخبنا على الألمان 2/0 سجل منها محمد عامر هدفا من ركلة ركنية أذهلت كل من شاهدها ضمن خلالها منتخبنا التأهل قبل لقائه مع منتخب السيليساو البرازيلي والتي انتهت بالتعادل السلبي، وفي دور الثمانية كان على محمد عامر وزملائه مواجهة المنتخب النيجيري العنيد الذي رشحه الجميع للفوز على عمان بل وذهب البعض بالقول بأنه سيكون منافسا قويا على البطولة، وبالفعل انطلقت المباراة وبدا وكأن الأمور ستسير حسب التوقعات عندما بادر النيجيريون بالتسجيل وإحراز هدف التقدم في الشوط الأول ولكن برهن قائد المنتخب محمد عامر من جديد على موهبته الفذة والشخصية القيادية التي كان يتحلى بها عندما تمكن من تعديل النتيجة من ضربة حرة مباشرة لا تنسى سكنت شباك النيجيريين قبل أن يأتي الدور على زميله هاني الضابط الذي أحرز هدف الفوز محققاً للكرة العمانية إنجازاً غير مسبوق بوصول المنتخب العماني للمربع الذهبي والذي اصطدم فيه مع المنتخب الغاني الرهيب الذي فاز على منتخبنا 3/1 ووصل إلى النهائي وحقق الكأس فيما بعد وكان لمحمد عامر أيضاً بصمته في هذه المباراة عندما أحرز هدف منتخبنا الوحيد ، وواجه الأحمر الصغير في مباراة تحديد المركز الثالث المنتخب الأرجنتيني الذي كان يضم بين صفوفه باولو ايمار وكمبياسو ووالتر صمويل وتمكن الأرجنتينيون من تحقيق الميدالية البرونزية والفوز 2/0 على منتخبنا الوطني الذي اختتم مشواره في البطولة بتحقيقه المركز الرابع مشرفاً السلطنة وواضعاً اسمها بين مصاف الدول المتقدمة.

أحرز محمد عامر جائزة أفضل لاعب في البطولة بالإضافة إلى جائزة هداف البطولة برصيد خمسة أهداف وحصل على الكرة الذهبية من قبل الاتحاد الدولي لأفضل لاعب ناشئ في العالم لعام 1995 وكذلك اختاره الاتحاد الآسيوي كأفضل لاعب ناشئ في آسيا في نفس العام ، وبدا لمحمد عامر وكأن الأهداف المنشودة والأحلام التي رسمها في صغره بدأت تتحقق وحلم الاحتراف الخارجي بدأ يقترب والذي كان أمنية كل لاعب ناشئ في العالم، ولكن لم يكن يدور في خُلد محمد وجماهيره ما كان يخبئ القدر له، وأن طموحه سيصطدم بواقع مرير سيُثبِط من عزيمته ويجعله يدخل في دوامة من الاكتئاب والصراع النفسي مع ذاته والعزوف عن ممارسة كرة القدم في نهاية المطاف.

فصول هذه الحكاية التعيسة بدأت بعد انتهاء بطولة كأس العالم في الإكوادور حيث كانت العروض الاحترافية تنهال عليه من داخل وخارج السلطنة، كان أبرزها عرض أتلتيك بلباو الإسباني حيث أتى مندوبو النادي إلى السلطنة للتفاوض مع نادي النصر لضم اللاعب إلى صفوف مدرسة ناشئي النادي الباسكي في خطة أعدها النادي لاستقطاب المواهب وإعادة تأهيلها، ولكن الاتحاد العماني دخل على الخط، وعدم دراية مسؤوليه بالأمور والقضايا الاحترافية آنذاك جعلت من حلم احترافه أمراً مستحيلاً عندما اشترط على النادي الإسباني التعاقد مع ثلاثة لاعبين من منتخب الناشئين ضمن الصفقة وطالب بنصيبه من مبلغ الصفقة، وهذا ما رفضه مسؤولو أتلتيك بلباو ، حيث إن العرض كان موجها لمحمد عامر وحده فقط، وحاول الأخير إقناع الاتحاد بقبول العرض ولكن لم يجد آذاناً صاغية لتلبية مطالبه وحقوقه المشروعة في الاحتراف الخارجي، ثم توجهه إلى الهيئة العامة لأنشطة الشباب والرياضة في محاولة منه لشرح موقفه وتفاصيل العرض وما سيحققه من مكاسب للكرة العمانية باحترافه في إسبانيا ولكن كذلك وجد الطريق مسدوداً أمامه، وفي نهاية الأمر رأى أنه ليس هناك سبيل سوى طرح قضيته في وسائل الإعلام أمام الرأي العام لعل وعسى يجد من يأخُذ بيديه ويعينه على تحقيق غايته وآماله في الاحتراف، ولكن ذهبت كل محاولاته أدراج الرياح، الأمر الذي أصابه بالإحباط وترك مرارة في نفسه وهو يرى أن موهبته تغتال وطموحه يتلاشى أمام عينيه، كان هذا السبب كافياً له برفضه تمثيل المنتخب مرةً أُخرى، بل وفي إنهاء مسيرته الكروية، حيث تراجع مستواه الفني كثيراً بعد الصدمة التي تعرض لها ولم يعد لديه الدافع لمواصلة المشوار والعطاء الكروي في الملاعب وعن ذلك يقول محمد عامر الكثيري : “على الرغم من الإنجازات التي حققها، فإنه نادم على ممارسة كرة القدم ، ولو عاد به الزمن إلى الوراء فإنه لن يركلها بقدميه مرةً أخرى”.

تصريح يلخص المعاناة التي عاشها اللاعب ، وحجم الصدمه النفسية التي كابتها، قضية دفع ثمنها محمد عامر وكرة القدم العمانية بخسارتها موهبة فذة أدهشت كل من شاهدها وشهد لها ببراعتها ونبوغها وراهن الجميع عليها، موهبة لو كتب لها أن تستمر كانت ستكتب اسمها واسم الكرة العمانية بحبر من ذهب في صفحات التاريخ الرياضي، ولكن قُدِر لها أنها نمت على تربة لم تتوفر فيها الظروف والإمكانيات الملائمة للبروز والظهور ومعانقة سماء المجد، فماتت في أوج عطائها ولم يجن الوطن من ثِمارها.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى