حِذاءُ فان جوخ ومارادونا

تقرير- ناصر صالح

تفتح كرة القدم عالماً جديداً للإنسان، وتقود خطاه للوجود في هذا العالم، لكن هذا العالم الجديد لا يوجد في كرة القدم، ولا في الملاعب، ولا في المدرجات أو منصات التتويج، ولا في أي شيء مادي له علاقة بكرة القدم، بل في البعد الوجداني الذي ينفتح حين يلامس اللاعب كرة القدم، هذا الفعل الخلّاق لكرة القدم يشبه فعل القصيدة الشعرية، والمعزوفة الموسيقية، واللوحة الفنية، فهي أيضاً تَخلقُ عوالم جديدة تتجاوز حدود الواقع؛ لكن هذه العوالم لا توجد في الكلمات، ولا في الورق، ولا في الآلات الموسيقية أو الأنغام، ولا في الألوان أو قماش اللوحة، وإنما توجد في العوالم التي تنفتح للإنسان حين يقرأ القصيدة الشعرية، ويسمع الألحان الموسيقية، ويبحر في اللوحة الفنية.

لقد كُتب الكثير عن العوالم الجمالية التي تخلقها الأعمال الفنية والأدبية، بينما ظل العالم الجمالي الذي تخلقه كرة القدم محتجباً خلف نتائج المباريات، وتحليلاتها الفنية، وأخبار النجوم والبطولات الرياضية، ولعل انصراف الفلاسفة والنقاد عن عالم كرة القدم رغم عشق الملايين لها حول العالم ينطوي على نظرة دونية مضمرة تجاه كرة القدم، فهي في تصور البعض منهم لعبة تنتمي للأقدام بينما الفنون والآداب تنتمي للقلب والرأس، كما أن أكثر عشاق الكرة من البسطاء والدهماء، بينما عشاق الفنون والآداب هم النخب الفنية والفكرية، وفي أغلب الأحوال لا علاقة لكرةٍ تركل بالأقدام بالعالم الجليل للفن والأدب والثقافة.

تعمد الشاعر بورخيس أن يقيم محاضرة له في توقيت المباراة الافتتاحية لمنتخب بلاده الأرجنتين في كأس العالم 1978، وكان يعزو شعبية كرة القدم إلى “انتشار الغباء”! أما المفكر امبرتو إيكو فلم يخفِ سخطه من “ثرثرة” المشجعين المتواصلة عن كرة القدم، واعتبر مشاهدة المباريات نوعا من استبداد الأقلية بالأكثرية، لكن في المقابل رأى المفكر غرامشي الذي قضى سنواته الأخيرة في السجن، وكان متعطشاً للعدالة، في كرة القدم نموذجاً مثالياً لمجتمع الفردانية الذي يتطلب المبادرة، والمنافسة والصراع في ظل قاعدة اللعب النظيف، أما الفيلسوف سارتر فرأى في كرة القدم مجازاً مثالياً للحياة كلها، لكن تظل هذه مجرد آراء عابرة وليست نصوصاً فكرية أو فلسفية تكشف الأبعاد الجمالية والإنسانية لعالم كرة القدم، ربما لو لم يمت الفيلسوف ألبير كامو باكراً في حادث سير لكتب نصاً فلسفياً تستحقه كرة القدم، فقد كان حارس مرمى، وحين سئل عن كرة القدم، وهو الحائز على جائزة نوبل للآداب عام 1957، قال إن كل ما يعرفه عن الأخلاق والالتزام يدين به لكرة القدم، أما فيلسوف الكينونة هيدغر فقد كان معجباً بكابتن المنتخب الألماني فرانز باكنباور، وكان يسميه “اللاعب المُلهِم”، ويروي أحد كتاب سيرته أنه ذهب في إحدى الليالي إلى بيت جاره ليشاهد على التلفاز مباراة هامبورغ وبرشلونة في كأس الأمم الأوروبية وأنه كان أحياناً يقرع كأس الشاي من فرط الإعجاب، وفي اليوم التالي التقاه مدير مسرح مدينة فرايبورغ في القطار وحاول أن يفتح معه حديثاً عن الأدب والمسرح لكن هيدغر لم يستجب لأنه كان لايزال تحت تأثير مباراة كرة القدم، ولم يكن راغباً في الحديث سوى عن لاعبه المفضل فرانز باكنباور. ربما لو عاش هيدغر حتى الثمانينات وشاهد إبداعات مارادونا الكروية على أرض الملعب لكتب نصاً فلسفياً عن حذاء مارادونا شبيها بالنص الفلسفي البديع الذي كتبه عن حذاء فان جوخ.

طالما أنه لا يتوفر لدينا نصٌ فلسفيٌ نلتمس منه طريقاً إلى العالم الوجودي لكرة القدم فليس أمامنا سوى أن نتلمس الطريق من خلال الملاحظة، لننظر إلى طفلٍ منهمكٍ في ركل كرة القدم، قد يشعر أبواه أنه يضيّع وقته، لكن الطفل يركل الكرة ويفتح لنفسه عوالم ممتعة، يتحول إلى نجم النجوم، وهداف العالم، وبطل الأبطال، إنه يباري لوحده في مملكة خياله فرقاً ومنتخبات ويسجل الأهداف ويهزمها الواحد تلو الآخر، إن الطفل لا يركل الكرة وإنما ينساق للآفاق الواسعة التي تفتحها له الكرة، وكلما تحسنت مهاراته في التحكم بالكرة شعر أنه يتحكم بالحياة، وكلما لعب أكثر أحس بوجوده أكثر، وكأن لسان حاله يستبدل مقولة ديكارت “أنا أفكر إذاً أنا موجود” بعبارة: أنا ألعب كرة القدم إذاً أنا موجود، لكن الطفل يعلم أن الأهداف والبطولات التي يحققها في مملكة خياله ليس لها قيمة إن لم تتحقق على أرض الملعب بوجود الآخرين، لهذا تبدأ رحلة إثبات وجوده كلاعب أساسي في الفريق مع رفاقه، وبعدها تبدأ رحلة الفوز والهزيمة، وتحقيق وجوده والمكانة التي يحلم بها كنجم كروي.

لكن كرة القدم تتعدى إثبات الوجود الفردي، لأنها لعبة جماعية، فاللاعب هو فرد واحد ضمن فريق، ولديه مركز ووظيفة يؤديها داخل الملعب لخدمة الفريق، ولذلك مهما كانت مهاراته الفردية عالية لن يجد له مكاناً في الملعب إن لم ينسجم مع زملائه في الفريق، إن تحقيق الوجود في كرة القدم يتعدى الوجود الديكارتي الفردي “أنا ألعب إذاً أنا موجود”، إلى مستوى أعمق من الوجود يسميه هيدغر “الكينونة-معاً”، فأصالة الكينونة، وفقاً لهيدغر، لا تتحقق إلّا لأنها في صميمها “كينونة-معاً” أي أن الآخر حاضرٌ في صميم الكينونة وجزءٌ من تحقيقها لأصالتها، وكرة القدم تفتح المجال لهذا النوع من المعية الوجودية، فاللاعبون يحققون “الكينونة-معاً” في الملعب من خلال تبادل تمرير الكرة، وبالوحدة التي يجسدونها كفريق كروي واحد في مواجهة الفريق الخصم.

إحدى الملاحظات الملفتة للانتباه هي أن كرة القدم قيدت اليدين اللتين هما وسيلة الإنسان الأساسية للكتابة، والرسم، والعزف الموسيقي ومختلف أنواع الإبداع، وجعلت حرية استخدامهما مقصورة على حارس المرمى، وفي المقابل حررت القدمين من وظائفهما التقليدية التي كانت مقتصرة على المشي، والركض، والقفز، والتسلق، والرقص، ومنحت الفرصة للقدمين لامتلاك مهارات التحكم بالكرة، والتلاعب بها، وإبداع الفن والجمال الكروي، لقد تعلمت القدمان مهارات ركل الكرة، والتحكم بها، وتسديدها في المرمى بقوة، وأصبحت تمتلك مهاراتها الإبداعية، ولمساتها الساحرة، فالأنظار طوال المباراة تتوجه إلى القدمين، وحركاتها الأنيقة في التعامل مع الكرة تثير إعجاب الجماهير، وتسحر ألبابهم، وأصبحت الألقاب تطلق على القدمين، وتمنح لها الأحذية الذهبية.

إن كرة القدم تلامس الكينونة لأنها تقدم نموذجاً مثالياً للحياة التي يتوق إليها الإنسان، ففيها تتجسد البطولة، والعدالة، والفن، والجمال، والقيم الوطنية والإنسانية التي يفتقد وجودها في الواقع، يكفي أن نتأمل كيف أتاحت كرة القدم مفهوماً جديداً للبطولة، فقد كان الأبطال الذين تتغنى بهم الآداب والملاحم القديمة هم الفرسان الشجعان في ساحات المعارك، لكن العصر الحديث لم يعد عصر أبطال وفرسان، فالدولة الحديثة بقوانينها الصارمة صادرت سيوف الأبطال والفرسان، وأصبحت هي من يحتكر دور البطولة، ولهذا انتهت محاولة ثربانتس لصنع بطل يحاكي فرسان الأزمنة القديمة إلى نموذج مثير للضحك والسخرية مثل دون كيخوته، لكن كرة القدم أتاحت ميلاد أبطال من نوع جديد، أبطال يثيرون حماس الشعوب بمهاراتهم وبطولاتهم على أرض الملعب.

إن مارادونا في مباراة الأرجنتين مع إنجلترا في كأس العالم 1986 لم يكن مجرد لاعب كرة قدم، بل كان أشبه بالبطل الأسطوري أخيل في معركة طروادة، والهدف الأسطوري الذي أحرزه من منتصف الملعب كان أشبه بانتصار تعويضي للشعب الأرجنتيني عن هزيمته المذلة من إنجلترا في معركة جزر الفوكلاند التي كانت قبل أربع سنوات من تلك المباراة التاريخية.

إن عالم كرة القدم أوسع بكثير من ملعبها، ففيها يجد الجمهور مثالاً يجسد العدالة التي يفتقدونها في حياتهم اليومية، فهنالك قوانين واضحة للعبة، وحكم للمباراة مع مساعديه يطبقون هذه القوانين على الجميع دون استثناء، وأمام أعين الجماهير الشاهدة على مجرى سير العدالة، كما أن أؤلئك الذين أتعبتهم الحياة بسيرها الاعتباطي الذي لا تحكمه سوى المصادفة والمحسوبية يجدون في عالم كرة القدم تجسيداً للعالم العقلي المنظم، فالكرة تتحرك بإيقاع فني منسجم، واللاعبون يتحركون بانتظام وفقاً لخطط ذهنية محكمة وضعها المدربون، والأذكى والأقوى هو الذي يحقق الفوز والانتصار في الملعب بدون أي تدخل لأصحاب النفوذ والسلطة.

كما أن الهوية الوطنية الأشبه بسراب لا وجود له في الحياة اليومية، تصبح وجوداً حقيقياً بلباس المنتخب الوطني على أرض الملعب، والوطن يصبح له معنىً وقيمةً عظيمة سواء في حال الفوز أو الهزيمة، لا مجال في كرة القدم للسؤال عن جدوى الحياة ومعناها لأن مثل هذه الأسئلة قد تنتهي بلاعب الكرة في دكة الاحتياط، إن هدف الحياة في كرة القدم واضح ومحدد وهو تسجيل الأهداف وتحقيق الفوز، وعلى اللاعب أن يعطي أفضل ما لديه داخل الملعب، وأن يكون بكامل استعداده البدني، ويقظته النفسية والفكرية حتى يستطيع أن ينفذ خطط المدرب، متى يضغط على لاعبي الخصم كي يفقدهم تركيزهم في التعامل مع الكرة، متى يهدئ اللعب، وكيف يتصرف عندما يمتلك فريقه الكرة، متى يلجأ للتمريرات القصيرة أو الطويلة، إن أداء اللاعب داخل الملعب هو الذي يضمن بقاءه أساسياً في الملعب على عكس الحياة التي يحتكر فيها أصحاب السلطة والنفوذ مناصبهم ومراكزهم للأبد.

إن كرة القدم تفتح عالماً للحياة والوجود، ولهذا يعشق الملايين كرة القدم لأنهم يجدون فيها الحياة والوجود الحقيقي.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى