ميسي الأرجنتين وميسي برشلونة.. أسباب عديدة وراء التباين

تحليل- محمد العولقي

 

* صدمة.. خيبة.. مرارة.. مجموعة مشاعر رمادية انتابت النجم الأرجنتيني (ليونيل ميسي)، ساحر (برشلونة) الإسباني وهو يرى حلم الفوز بكأس العالم يتبخر في سماء روسيا، ومشروعه الدولي مع (التانغو) يتحول إلى أثر بعد عين..

خاض (ليونيل ميسي) أربعة مونديالات عالمية، سخر كل قدراته الفردية ومهاراته الفنية بحثا عن لحظة تتويج واحدة تضعه منطقيا في مصاف عظماء كأس العالم، غير أن حلم الفتى الذهبي البرشلوني بامتلاك بيضة الديك في روسيا انقلب إلى كابوس مرعب يقض مضاجع اللاعب الذي ما فتئ النقاد يشبهونه بالأسطورة ذائعة الصيت (دييغو مارادونا) ، وإذا كانت المونديالات الثلاثة التي سبقت مونديال روسيا قد شهدت محاولات دؤوبة من (ميسي) لكسر طوق العزلة ووضع حد فاصل للتنافر بينه وبين كأس العالم ، فإن مونديال روسيا دق المسمار الأخير في نعش أحلام (ميسي)، فمشاركته الخامسة في مونديال قطر محفوفة بالمخاطر الطبيعية، أبرزها أن (ليو) سيبلغ الخامسة والثلاثين عندما يحين المونديال القادم ، ثم من يدري كيف ستكون حالته الفنية والبدنية والنفسية ..؟

يبدو (ليونيل ميسي) طلسما حقيقيا عندما يلعب مع منتخب الأرجنتين ، يفقد بوصلة القيادة تماما ، يتحلل نفسيا ، و لا يرى خريطة المرمى حيث يضل الطريق ولا يجد نفسه ، قدم الأرجنتينيون كل وسائل المساعدة لنجمهم (ميسي) ، تجاوزوا الكثير من (بروتوكولات) الثوابت لأجل عيون (ميسي) ، منحوه شارة القيادة وهو في سن الثالثة والعشرين ، ولأجله جلبوا مدربين يضعون ويبنون كل الخطط على (ميسي) ، مارس الاتحاد الأرجنتيني تعبئة معنوية بهدف فرض (ميسي) الرقم الصعب واللاعب الذي يستأنس كل مدرب بآرائه في اختيار نوعية اللاعبين ، كل المدربين اغلقوا على مهارات وقدرات اللاعبين بالفلين العتيق ، وسلموا المفاتيح للفتى الأعجوبة (ليونيل ميسي) ، باختصار صنع الاتحاد الأرجنتيني للقائد (ميسي) طحينة من نهر الأمازون ، وطلبوا منه صناعة الخوارق والمعجزات في زمن ولت فيه المعجزات إلى غير رجعة ..

السؤال الذي يجلد الأرجنتينيين: لماذا فشل (ميسي) مع (التانغو) ..؟ ولماذا يتباين أداؤه بين مرتفع حد التخمة مع (برشلونة) ومنخفض حد الضاءلة مع (الأرجنتين) ..؟

لفك طلاسم (ميسي) مع المنتخب يجب أولا أن يعترف الاتحاد الأرجنتيني أنه أخطأ في تقديس اللاعب، ثم أضاف خطأ ثانيا إلى سلسلة أخطائه عندما ألبسه ثوب (مارادونا) الفضفاض وعزله تماما عن زملائه اللاعبين، جعل الاتحاد  من (ميسي) شمسا تدور حولها عشرة كواكب دون أن يضع في اعتباره الضغوطات النفسية التي يفرزها نهج منتخب يدور في فلك لاعب واحد، كل هذه الأخطاء المقصودة وغير المقصودة بطبيعة الحال صنعت من (ميسي) مشكلة عويصة مع منتخب الأرجنتين .. كيف ..؟

لا شك أن الأرجنتينيين تجاهلوا حقيقة واضحة للعيان تتلخص في أن عصر النجم الواحد زال وانقرض وأفل بحكم التطور الشامل في طرق ونظم وخطط اللعب والسرعة الرهيبة التي أصبحت عليها كرة القدم ، أصبح الأداء الجماعي يصنع الكثير من الفوارق ، ومنطق ارتداء (ميسي) لجلباب النجومية المطلقة في عصر الغلبة فيه لسرعة الارتداد و التكتيك الجماعي المعقد جعل منتخب الأرجنتين يدور في حلقة (ميسي) المفرغة ، حتى أن المنتخب كان يختنق تموينيا بحكم مخاضات التواصل الصعبة التي ألقت بظلالها على شاكلة الأرجنتين القاتمة ..

يقول المدرب الأرجنتين الشهير (كارلوس بيلاردو) الفائز بكأس العالم عام 1986 بالمكسيك: الواقع أن الاتحاد الأرجنتيني كان يرى في ميسي اللاعب الخارق، لقد صاغ منظومة عمل فنية بحتة تعتمد على قدرات (ميسي) الفردية، وتناسى الغلاف التكتيكي الحامي لوظائف اللاعبين، لهذا السبب ظهر منتخب الأرجنتين في مونديال روسيا مهلهلا تكتيكيا وعقيما فنيا وغير قادر على البناء و فرض أسلوبه طالما والنهج العقيم يميل للنجم الأوحد..

وإذا كان (ليونيل ميسي) قد اقتنع بأنه (الحل)، والرجل الخارق الذي يصلح لكل التموضعات، والروشتة التي تعالج اكتئاب الشاكلة فإنه بهذا الإقتناع أسس فريقا خاملا كالروبوات لا حس لها ولا شعور، كل عمل هذه الروبوات  ايصال الكرة نحو (ميسي) و التمرير له، وعلى عاتقه تقع مسؤولية جر الذئب من ذيله، ظل (ميسي) يراقب الأعباء وهي تتضاعف وتثقل كاهله ولم يتبرم أو يطلب من المدرب (سامباولي) تخفيف كل تلك الحمول النفسية وتحرير زملائه من متاهة مشاهدة (ميسي)، كان في وسع (ميسي) أن يتحرر من ظل (مارادونا) وأن يفرض شخصية مغايرة للواقع، لو أنه  عزز قناعات المنظومة الجماعية وتركها تدور في فلك الجميع على الأقل حتى يتوزع دم المنتخب الأرجنتيني بين القبائل، بدلا من سقوط السقيفة على رأسه دون غيره..

الحقيقة أيضا أن (ميسي) تاه تماما بين واجباته كقائد للمنتخب، ملزم بأن يكون هو مفتاح المدرب داخل الملعب، وحلال كل عقد الاستعصاء ، وبين واجباته كلاعب حر يفترض أن يساعد زملائه بدلا من انتظار خدمة لاعبين تشبعوا بحقيقة أنهم مجرد (كومبارس) في خدمة (ميسي)، لهذا السبب فقد (ميسي) ظله وأصبح يصارع متناقضات لم يعهدها مع (برشلونة)، ولعل شعور اللاعبين بأنهم (كمالة عدد) أورثهم احباطا جماعيا  جعلهم يلعبون بدون نفس، وهو ما يفسر اضمحلال الأداء القتالي، وتراجع المنسوب المعنوي إلى أدنى مستوياته، لقد ترسخ في عقول اللاعبين مبدأ أنهم داخلون في المكسب ..خارجون من الهزيمة..

وكم كان (دانيال باساريللا) المدافع الذي رفع كأس العالم في الأرجنتين عام 1978 صادقا عندما أوشى باعترافاته الكبرى لصحف بلاده: الطريقة الهلامية التي يلعب بها (سامباولي) تقود إلى طريق واحد، طريق يفضي في النهاية إلى الانتحار

يبقى السؤال: لماذا يتألق (ميسي) إلى جوار ناديه (برشلونة) ويظهر حملا وديعا مع الأرجنتين ..؟

الإجابة بسيطة وتتعلق بالمنظومة، ففي (برشلونة) يتوهج (ميسي) لأن وظيفته داخل الملعب واضحة ومحددة، فهو على الرغم من أهميته الفنية إلا أنه لا يشذ عن قاعدة (التيكي تاكا)، لكل خط من خطوط الفريق محرك يجعل المنظومة تدور بغير عجز، على العكس تماما مع الأرجنتين حيث تحيط (ميسي) هالة تقديس غير عادية، ربما باركها (ميسي) في لحظة نشوة، بدليل أنه عاش تلك الكذبة مع المنتخب طوال عقد من الزمن، لم يتجرأ خلالها مدرب أو خبير فني أرجنتيني ويطلب إيقاف تلك الأسطوانة المشروخة، ظل التقويم العام لدور (ميسي) الباهت خطا أحمر  و محلك سر، على خلفية أن الاتحاد الأرجنتيني غير المدربين ولم تتغير إستراتيجية العزف على وتر النجم الأوحد..

يضم منتخب الأرجنتين الكثير جدا من اللاعبين المرموقين الذين ينشطون في الدوريات العالمية، وهم يشكلون منطقيا نسيج منتخب متكامل الخطوط قادر على الفوز بكأس العالم، لكن كل تلك المحاسن والقدرات الهائلة تلاشت مثل خيط دخان، والسبب بطبيعة الحال اختزال المنتخب في (ليونيل ميسي) دون غيره، لقد ظلم (ميسي) نفسه وحنط جميع حواسه كلاعب خارق للعادة عندما تحول (مارادونا) في رأسه إلى هاجس ثم عقدة يجب الخلاص منها من خلال القيام بنفس دور الأسطورة (مارادونا)، تغافل هو الآخر حقيقة أن لكل رجل عصره، وعصر (ميسي) ليس عصر (مارادونا) بالطبع، ثم إن الود كان مقطوعا بين (ميسي) والصحافة الأرجنتينية منذ أن قاد تمردا شاملا احتجاجا على انتقادات إعلامية لاذعة وجهتها الصحف الأرجنتينية بعد تكرار استنساخ الفشل الدولي في أكثر من بطولة، وهو ما يفسر مغادرة (ميسي) الأراضي الروسية نحو كاتالونيا وليس نحو الأرجنتين..

فشل (ميسي) في المونديال يعود بالدرجة الأساسية إلى تلك الفجوة الواضحة بينه وبين قدرات زملائه التي ظلت حبيسة طريقة لعب صممها المدرب لميسي، ويعود أيضا إلى غياب الروح  ورغبة التحدي (الجرينتا )، بالإضافة إلى المسافة الشاسعة من الجفاء بين (ميسي) و الإعلام الأرجنتيني، لقد انقلب السحر على الساحر، وها هو (ميسي) يتجرع مرارة الحنظل، والنتيجة أن (ميسي) ودع مونديال روسيا (ربما الأخير في مشواره) وداعا حالكا، لقد شيعت روسيا وداعية لاعب ملهم ستظل أرقامه مع (برشلونة) تعانق قمة جبال الهيمالايا، أدار (ميسي) ظهره ربما لآخر مشاركة مونديالية وجر معه مليون خيبة لم يتجرع منها ولو جزء في المائة طيلة حياته الكروية الحافلة بالإنجازات الخارقة رفقة فريقه الممتع (برشلونة) الإسباني ..!

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى