كرة القدم..من عمال البناء إلى مهندسي التدوير

تقرير- محمد عصام

تجتاح الذكريات أذهان مشجعي المستديرة حين يتحدث أحدهم عن الدوري الإنجليزي في أواخر التسعينيات، وأوائل الألفية، ويثير مركزاً بعينه هذه “النوستالجيا”، فخلف كل “تيري هنري وآلان شيرار”، كان هناك رجال المهمات الصعبة، السواعد الحديدية التي تصلب بنيان الفريق، بالركض المستمر، وافتكاك الكرات في وسط الميدان.

ولنترك بلاغة الوصف، وننظر للأمر من الجانب الفني، فقد كان من المنطقي أن يكون لتلك المواصفات البدنية الكلمة العليا في فرض سيطرتها، نحن نتحدث عن زمن مارس اللاعبون كرة القدم على فطرتهم الأولى، قبل عصر الكهنوت التكتيكي، ووفق قوانين الطبيعة البدائية، فالبقاء للأقوى.

جاء التغير سريعاً ومفاجئاً، وزحفت عملية الحداثة إلى كرة القدم، لتعيد تعريف هذا المركز، بجيل اختلف جذرياً عن سابقه، لاعبي وسط بقدرات فنية تموّل هجوم الفريق بتمريرات دقيقة، ليزدهر أمثال “ألونسو، بيرلو” في فرق القمة، مع انحدار رموز “الترهيب”.

دخلت الدراسة العلمية مجال كرة القدم، مراقبة فيزيائية حركة الكرة، والوضع التشريحي لأجساد اللاعبين في كل لحظة أنتجت فهماً أكبر للتحكم في عوامل المساحة، التمرير، والضغط، لذلك احتشد خليط بين صفات الأجيال السابقة من متوسطي الميدان في الجيل الحالي، وبرغم اختلاف وظائفهم ظاهرياً، فلا يوجد جورجينهو وفيرينكي دي يونج بدون روي كين وفيني جونز.

دي يونج

نبدأ بالموهبة الأقرب لقلوب المشجعين، فيرينكي دي يونج، هو أوضح مثال على التأثر الحالي بمزيج الأجيال. صاحب الواحد وعشرين عاماً الذي يجمع بين متعة الموهبة الفطرية في مداعبة الكرة والاختراق، مع ذكاء وفهم شامل للتمركز، والتوقع لمسار الكرة، وضبط توقيت التمرير، ليسمح له بالتحول السلس بين الدفاع، والوسط، والهجوم بدون ترك فجوات في خطوط فريقه.

نفس الحال مع الفرنسي تانجواي ندومبيلي، الترس الأبرز في وسط ميدان ليون، قدرته الفائقة على حمل الكرة لمسافات خلف خطوط الخصم، ونسبة المراوغات والتمريرات الناجحة، لا تتعارض مع فهمه لواجبه الدفاعي، واستيعابه لدوره في الضغط وسرعة استرجاع الكرة، لتجعله مستعداً للتأقلم في مختلف القوالب التكتيكية.

“اللاعب الذي يرى المساحة” هكذا يشير بيب جوارديولا وماوريسيو بوتشينيو لهذه النخبة من اللاعبين. يبدو الأمر معقداً، أليس كذلك؟

لأنها صفات غير قابلة للقياس، ولكن ما يربطهم ليس القدرة على توزيع اللعب، والبحث عن التمريرات الأمامية “حرفياً” –وهي أمور تواجدت عند جُل عظماء خط الوسط في تاريخ اللعبة- فحسب، بل فعل ذلك كله بشكل يمنع فقدان الكرة في مناطق قد تنتج ارتدادا خطيرا على الفريق، هي عملية اتخاذ القرار الصحيح لكل موقف، والحفاظ على “التوازن” العام للفريق.

ميراليم بيانيتش

مثال على ذلك من أرض الواقع، هو ما حدث في مواجهتي أتلتيكو مدريد – يوفنتوس، تحديداً ميراليم بيانيتش، فبعد أداء باهت في مباراة الذهاب، تغيرت الأمور في العودة ليس فقط باعتماد بيرناردسكي وإيمري تشان أساسيين بدلاً من رودريجو بنتانكور وباولو ديبالا، ولكن تحسن مستوى بيانيتش نفسه، اللاعب الذي قرر متى يمرر نحو الأطراف سبينازولا وجواو كانسيلو، ومتى يكسر الخطوط بتمريرات نحو ثلاثي المقدمة.

تغير نهج الفريق كاملاً، وتحركت عناصر الفريق بانسيابية، مع تقدير لحساسية الموقف، ليعمل على توجيه دفة الفريق نحو الهجوم، دون التسرع الذي يؤدي لظهور المساحات، أو التمرير نحو مناطق حيث تصبح احتمالية فقدان الكرة أكبر فيها، وإبطال مشاريع مرتدات أتلتيكو بسرعة استرجاع الكرة، هو لاعب الشطرنج الذي توقع اللعبة القادمة لخصمه قبل حدوثها بأكثر من خطوة مرة تلو الآخرى.

جوندوجان

نوجه الأنظار نحو مانشستر سيتي، حين اصطحبت خطوة انتقال جوندوجان أراء ئئبكونه المفضل للبدء في منظومة فريق جوارديولا، وبرغم إمكانيات جوندوجان الفنية الهائلة، وغيابه المتربط بالإصابات طويلاً، لكن فهم فيرناندينهو لما يبحث عنه بيب هو ما رشحه باستمرار لمزاملة دافيد سيلفا وديبروين، الفهم الكامل للتحرك في “الإنش” المناسب، مع القدرة الهائلة على ارتكاب الأخطاء التكتيكية مراراً وتكراراً في سبيل إجهاض المرتدات، عوامل جعلت البرازيلي غير قابل للاستبدال.

مازال جوارديولا يبدي إعجابه بجوندوجان، ومن الواضح من أدائه المتصاعد هذا الموسم مؤخراً أنه قد بدأ يستوعب متطلبات مركزه، وأن ثلاث سنوات كانت كافية للموازنة بين غريزته الهجومية، دون الإخلال بالمنظومة الدفاعية للفريق.

ستستمر كرة القدم في التفاعل مع تطوراتها الذاتية، ولذلك كل فترة لها “النخبة” الخاصة التي تضع تعريفاً لتلك الحقبة الزمنية. ومع ازدهار العلم الرياضي، والإحصاء، والدراسات النظرية الدقيقة، سنذكر هذا العصر باللاعب الشامل الذي فهم متى وكيف يحرَك كرة القدم.  

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى