تونس والسنغال .. دراما النيران الصديقة ..!

تحليل ـ محمد العولقي

لم يكد المنتخب التونسي يقيس أولى خطوات خصمه المنتخب السنغالي في نصف نهائي بطولة أمم أفريقيا، حتى تأكد أن بالإمكان ترويض أسود التيرانجا وتدجينها.

في كل المباريات التي خاضها المنتخب التونسي، سواء في دور المجموعات أو في دور ثمن النهائي أمام غانا أو حتى في دور الربع أمام مدغشقر، كان المنتخب التونسي محظوظا من قمة رأسه حتى أخمص قدميه، لكنه عندما قدم أجمل مبارياته في البطولة على الإطلاق أمام السنغال في نصف النهائي الدرامي تخلى عنه الحظ أولا، ثم تدخل (الفار) فأفسد عودة تونس في توقيت قاتل.

وإذا كان خط دفاع تونس كريما في توزيع الهدايا عن طريق اعتناق النيران الصديقة في دقائق غاب فيها التركيز ، فإنه أمام السنغال ظلم مرتين:

الأولى: عندما ارتبك حارس مرماه المعز حسن في الوقت الإضافي الأول، أمام كرة ضالة اصطدمت دون وعي بالمدافع (ديلان)، فدخلت المرمى.

والثانية: خطأ مزدوج من الحكم الأثيوبي تاسيما و حكام (الفار )، الأول احتسب ركلة جزاء صحيحة لا غبار عليها قبل دقيقتين من نهاية الوقت الإضافي الثاني بعد لمسة يد واضحة، والثاني – أي الفار- مارس تأثيرا نفسيا على حكم الساحة فتم إلغاء الركلة مع أن الواضحات من الفاضحات.

ذكاء تكتيكي تونسي..

أمام السنغال تحول المنتخب التونسي إلى إعصار يقتلع كل عدادات السنغال البدنية، واستطاع المدرب آلان جيريس (المغضوب عليه تونسيا) بكثير من الذكاء المهني، التحكم في إيقاع المباراة كيفما شاء.

فاجأ جيريس خصمه السنغالي آلو سيسيه بامتلاكه لحصانة فنية تكتيكية تصلح لكل حالات الطوارئ، وعندما حرك جيريس آليات وسطه معتمدا على خط دفاع ثابت لا يتقدم ظهيراه إلا في النادر، كان في الواقع يسعى إلى تحييد وإلغاء ترسانة السنغال الهجومية.

توقع المحللون قبل المباراة أن يعيش خط دفاع تونس بقيادة ياسين مرياح لحظات عصيبة، أشبه بالجحيم أمام انطلاقات سيدو ماني و نيانج، لكن أحداث الشوط الأول ألغت هذا التصور أو قل قتلته في مهده.

فضل آلان جيريس تطويق عناصره من خلال شاكلة فيها الكثير من المرونة التكتيكية في خطي الوسط والهجوم، وإذا كان المنتخب التونسي قد ارتبط بكلاسيكية 4/2/3/1 فلأنه كان يبحث عن قتل المساحات، بحيث لا تصل الكرة إلى ماني أو نيانج أو كيتا بالدي في وضع مريح.

ربما بدأ للعيان أن لاعبي السنغال كانوا أكثر حيوية في الشوط الأول، لكن إذا أحصينا المحاولات الجادة على المرمى فلن نسجل سوى تهديدين، أحدهما للظهير الأيسر ( سابالي) ردها القائم الأيسر، والآخر لسيدو ماني الذي انفرد بعد خطأ في استرجاع الكرة، فأفلت هدفا بكل بشاعة بعد مراوغة الحارس المعز حسن.

عدا ذلك كان المنتخب التونسي يلغي الكثير من استراتيجية المنتخب السنغالي التي تعتمد على التحضير من الخلف للأمام.. لم تكن طريقة جيريس لتشابه طريقة آلو سيسيه، كان المبدأ الأول عند جيريس تأمين الدفاع أولا برباعي ثابت، ثم التكيف مع الخصم ثانيا، بعدها البحث عن الدور الهجومي الفعال.

أظهر لاعبو تونس قدرتهم في امتصاص حيوية لاعبي السنغال، كانت الكثافة العددية في الوسط نوعا من الاحتيال التكتيكي لمنع بناء الهجمات من الخلف للأمام، الأمر الذي جعل المدافع كوليبالي يستخدم أسلوب التمرير الطويل الذي أرهف ماني تحديدا.

الأخطاء الفردية رهان خسره التونسيون..

حاول جيريس تحويل المباراة إلى مبارزة في العراك البدني، ثم انتهز الفرصة في الشوط الثاني للعب بورقة المفاجآت سواء على مستوى التبديل أو على مستوى المباغتة.

في كل المباريات كان منتخب تونس يفضل أن يترك الحرية لخصومه للتعبير عن نواياهم، ثم بعد ذلك يرد بفضل التوفيق الذي لازم الفريق.

في الواقع لجأ جيريس إلى إخراج المهاجم يوسف المساكني، ثم أقحم لاعب وسط هجومي ذا ثقل تكتيكي كبير ( نعيم السليطي)، وأمكنه بهذا التغيير من امتلاك وسط الملعب، وخنق لاعبي السنغال في مساحة يصعب معها سيسيه أن يجد حلولا بشاكلة 4/3/3 على الرواقين تحديدا.

وهي الشاكلة التي كان من الواضح أنها صممت لتحرير سيدو ماني من أي مهام دفاعية، بحيث ينصب دوره في التحرك الأفقي لخلخلة الدفاعات.

وإذا كان السخيري هو العامل الذي يشوش على البناء السنغالي من العمق ، فإن فرجاني ساسي و طه ياسين الخنيسي تحملا مسؤولية البناء الهجومي وصناعة اللعب في التمرير.

كان نزول السليطي فرصة ذهبية للمهاجم وهبي الخزري، على أساس أنه كان في حالة تضارب في الشوط الأول مع يوسف المساكني ، وهذا المتغير سمح له أن ينفض ثوب التكاسل الذي كان عليه في الشوط الأول.

ولأن الحظ لعب دورا كبيرا في حمل تونس إلى هذا الدور وهو الذي احتل الترتيب الثالث في مجموعته ، فقد واصل تدفقه في منعطف خطير من المباراة.

كان واضحا أن لاعبي السنغال قد تأثروا كثيرا بنمط وطريقة لعب تونس، وكان هذا المتغير يعني أن المباراة المغلقة ستلعب على أخطاء فردية يتدخل فيها الحظ بنسبة كبيرة.

تجلى ذلك بوضوح قبل نهاية الشوط الثاني والمباراة في وقتها الأصلي، بحصول منتخب تونس على ركلة جزاء صحيحة احتسبها الحكم تاسيما، بعد تدخل ساعد كوليبالي في تسديدة أرضية لفرجاني ساسي حتى هذه اللحظة كان يمكن للتونسيين تكفين كل أسود التيرانجا وإقامة صلاة الجنازة، لو أحسن فرجاني ساسي تحويل الركلة إلى هدف تونسي.

لكن الحظ نفسه الذي كان ملازما للمنتخب التونسي في أكثر من مباراة، هو ذاته الذي أدار وجهه لنسور قرطاج، لقد أهدر ساسي فرصة العمر، نعم فرصة العمر لأنه لو أحسن التغلب على الحارس غوميز لضاع منتخب السنغال في متاهة البحث عن التعادل في مباراة مغلقة الأبواب، لكنها مفارقات كرة القدم التي تلعب في هكذا مباريات على خطأ فردي واحد.

دراما سنغالية ..

تمكن المنتخب التونسي في الشوط الثاني تحديدا من تعقيد المباراة على السنغاليين، والأكثر من هذا أن طريقة جيريس التي منحها مرونة الانتقال الى شاكلة 4/3/2/1 مع خروج المساكني مكنته من إلغاء هوية سيسيه الذي فوجئ بأن الرواقين (قوته دائما) في حالة اختناق، ودائما ممنوع المرور أمام دراغر وأسامة حدادي.

كان ظهيرا السنغال سابالي و سافيت في وضع معقد، ولم يجدا تعاونا من ماني أو كيتا بالدي في تحريرهما من هذا التحنيط التونسي.

ورغم هذا التحنيط التكتيكي إلا أن مدرب السنغال لم يهرب من نفس التصور، لقد حافظ على نفس النهج ونفس الرسم التكتيكي، لدرجة أن تغييراته كان هدفها التنشيط فقط دون المساس بأسلوب اللعب.

وبالرغم من التنظيم الدفاعي الذي مارسه التونسيون طوال المباراة من خلال الكثافة العددية والجمركة في وسط الملعب، وبالرغم من التفوق الذهني في تغطية ومراقبة خط هجوم السنغال، إلا أن الأخطاء الفردية كانت حاضرة في العشر الدقائق الأخيرة من الشوط الثاني، واستمرت حتى الشوطين الإضافيين.

ولكي يقضي جيريس على حيوية لاعبي السنغال، كان لابد له ان يعتمد على بعض أسلحته، وقد كانت قليلة على أي حال في هذه البطولة، وللأسف أن أخطر من أنهار كان الحارس المعز حسن في لقطة هدف الإقصاء الكارثي بالنيران الصديقة.

قلت إن منتخب تونس بحث عن الاتزان في العمق الدفاعي، ولأن دفاعات تونس أقوى جسمانيا وأطول قامة فقد مكنهم ذلك من إتلاف هوائيات السنغال، إلا أن هذه الطريقة الأسمنتية لم يشفع لها على أي حال، بسبب الأخطاء الفردية الناجمة عن الانفعال وعدم التركيز.

يمكن القول إن العشر الدقائق الأخيرة من الشوط الثاني كانت دراما حقيقية، فبعد إهدار ساسي لركلة جزاء صدها غوميز، ارتكب مدافع تونس ديلان خطأ ضمن سلسلة أخطاء قادمة، فسقط لاعب السنغال ندياي، فكانت ركلة الجزاء في توقيت قاتل بالفعل.

رفض سيدو ماني تنفيذ الركلة بناء على عهد قطعه على نفسه بعدم التسديد بعد إهدار لركلتين في مباراتين مختلفتين، وهكذا وجد لاعب الوسط سافيت نفسه مكرها على التنفيذ، غير أن الحارس معز حسن اختار الارتماء إلى الزاوية اليسرى فصدها، وعاد الحظ مرة أخرى يبتسم للمدرب جيريس.

الفار يخذل تونس

في الوقتين الإضافيين تدنى المستوى البدني عند لاعبي المنتخبين، كان الاحتكاك سيد الموقف في كثير من المناسبات، لكن طريقة الاستمرار في غلق كل الممرات من الجانبين أوحت أن المباراة تتجه نحو ركلات الترجيح، لولا خطأ فادح مزدوج من الحارس التونسي المعز وزميله المدافع ديلان.

خطأ جانبي للسنغال ينفذ من اليمين، تمر الكرة شبه عالية وبدون مقدمات يخرج المعز، لكنه يتردد ويرتبك ليحجب الرؤية عن زميله ديلان، الكرة تلمس ديلان وتدخل مرمى تونس بطريقة كوميدية لم نشاهدها حتى في فيلم 4/2/4 ليونس شلبي وسمير غانم.

لم يكن المنتخب التونسي محظوظا في هذه المباراة لأنه خسر في أجمل مباراة لعبها في البطولة، و مع ذلك يمكن القول أن الحكم الأثيوبي تاسيما ثم (الفار ) وقفا في وجه العودة والتأهل التونسي.

الحكم يحتسب ركلة جزاء واضحة وضوح الشمس على إثر لمسة يد واضحة داخل المنطقة، وفي وقت كان نعيم السليطي يستعد لتسجيل التعادل يتدخل (الفار )، يذهب الحكم ليشاهد اللقطة المثيرة للجدل، ثم يعود ويلغي القرار وسط دهشة لاعبي السنغال قبل لاعبي تونس، وهكذ طار (الفار) بمنتخب السنغال إلى النهائي، في حين تخلى الحظ عن نسور قرطاج في أجمل مباراة لعبها المنتخب في الكان ..!

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى