كتب: محمد العولقي
اغمض عينيك وتخيل المشهد التالي:
في المنامة .. الشيخ عيسى بن راشد آل خليفة يغرس عينين أجهدهما سهد الانتظار الطويل في الشاشة الفضية .. يكاد قلبه يقفز من بين ضلوعه .. أعصابه تغلي كالجمر .. كأنها شحنة بارود متفجرة ..
يسبح لله .. فجأة تنبت الأرض فدائيا بحرينيا (محمد الرميحي) .. يندس في خفة قط سيامي جميل .. ويحول الكرة بوخزة كعب إلى مرمى المنتخب السعودي.
إنه هدف التتويج بلقب بطولة خليجي 24 بالدوحة .. هدف نبت في تلافيف ذاكرة الشيخ عيسى بن راشد قبل خمسين عاما .. هدف شب ونما في قلب هذا الشيخ الوقور ..
منذ ولادة أول بطولة في البحرين قبل خمسين عاما .. انتظر خروجه للعلن .. و قاوم في داخله غيبوبة الجرح .. إلى أن جاء الفرج ..
تمنعت هذه الكأس طويلا عن منتخب البحرين .. كانت هذه الكأس أشبه بالفردوس المفقود .. اللغز الذي لازال غارقا تحت مياه دلمون .. في كل دورة .. تقترب هذه الكأس من منتخب البحرين .. وكلما وقفت أمام باب الأحمر ولهانة ومسيرة .. كلما ابتعد عنها منتخب البحرين أميالا .. تنافر عجيب ينشف الريق ..
معادلة مضنية .. أرهقت رأس هذا الشيخ الذي يفجر معاناته مع الحظ.. أشوافا وآهات وأنات .. تحولت على ألسنة الفنانين إلى نافورة أعياد ملونة.. وليالي أنس خليجية ليس لها مثيل ..
كان الشيخ عيسى بن راشد واثقا تماما من الفوز بهذه الكأس المتمردة يوما ما .. كان واثقا أن رجل خبير مثله عركته بطولات الخليج وعركها .. قادر على فك كل طلاسم ولوغاريتمات الفردوس المفقود ..
أبدا لم يكن الشيخ عيسى مغامرا في البحث عن عشبة الخلود في أعمق أعماق دلمون .. كما فعل جلجامش الأسطوري .. فقط كان يؤمن بأن غواص مثله في أحشائه الدر كامن.. قادر على حل اللغز .. وإيجاد مفتاحه يوما ما .. و إنهاء القطيعة بين حورية الخليج و متيمها الولهان ..
23 دورة سابقة .. عاشها الشيخ عيسى بن راشد على أعصابه .. كان يدفع ثمن الانتظار الطويل من روحه المعنوية .. ومن صحته .. ومن أعصابه .. ومن ديوان شعره الرومانسي الجميل ..
كان الشيخ عيسى واثقا أن مرج البحرين سيلتقيان يوما ما .. ستحل الإشكالية .. وستتفجر كل ينابيع الوفاء .. وكيف لا تفي هذه الكأس بوعدها .. وقد خبأها الشيخ عيسى في صدره خمسين عاما؟ .. كيف لا وقد طرزها هذا الشيخ بكل فتنة ألوان الطيف؟ ..
صار عيسى بن راشد كهلا .. ثم شيخا .. ولم يخب بريق هذه الكأس في وجدانه.. كانت أمامه في منامه و حله وترحاله .. كاد الشيخ عيسى بن راشد يجن من هول هذا الجفاء غير المبرر .. فقط لأنه منح هذه الكأس كل قبل الحياة ..
غذاها من تصريحاته الصاخبة المثيرة للجدل .. وجعل منها دورة في الكلام بامتياز .. لا يمكن لأي إعلامي تسويق بضاعته في دورات الخليج .. ما لم تحمل ختم و ماركة الشيخ عيسى .. أيامي قبلك عدم .. أيامي بعدك ندم ..
حضوره كان طاغيا يفوق البطل .. نعم إذا طل الشيخ عيسى غلب الكل .. إذا تكلم بز الجميع .. و نصب نفسه بطلا متوجا لا منافس له .. هو ملح و سكر و بهارات وتوابل بطولات الخليج .. لا يستقيم عودها إلا بظله و نبل أخلاقه وفراسة كلامه الذي يدخل القلوب بلا استئذان ..هو فقط من يحتفظ في تلافيف مخه بسر الوصفة الخليجية.. حتى وقد استعصت عليه هذه الكأس وتمنعت عنه طويلا ..
كان الشيخ عيسى يسأل بحرقة وانفعال مع هذه القطيعة بينه وبين الكأس:
مدربون عالميون وجلبنا .. لاعبون من أجود ما يكون و تبنيناهم وجهزناهم .. مكآفات خيالية ودفعنا .. معسكرات خارجية وصرفنا عليها من دم قلوبنا .. ماذا نفعل لترضى عنا هذه الكأس ..؟
أعتقد أن البحرينيين سيعيدون للرقم 13 اعتباره المصادر في أوروبا .. حيث يرونه رقما جالبا للنحس .. محمد الرميحي جعل لهذا الرقم في البحرين شلالات فرح عند الشيخ عيسى .. وعند مملكة بكل عتادها البشري ..
كان الرقم 10 هو الرقم المقدس بحرينيا .. كان هو الرقم الذي يعلق عليه البحرينيون آمالهم في فك الارتباط عن النحس الملازم لهم في دورات كأس الخليج..
جاء الفرج عن طريق رقم الرعب 13 .. الرقم الذي كان مفتاح الوصول إلى المدينة الفاضلة .. تلك المدينة التي فتحها عيسى بن راشد بعد مخاض عسير .. وأصبح اليوم يقلب بين كفيه الفردوس الأحمر بحس شاعر..
قصة عيسى بن راشد مع هذه الكأس عجيبة .. هي قصة أكثر إثارة من قصص وحكايات ألف ليلة وليلة .. قصة كتبها عيسى بن راشد بدموعه و نبض معاناته .. خمسون عاما وهو يكتب هذه القصة من دون أن يمسك بخيط النهاية ..
لم يكن الشيخ عيسى بن راشد سوى عالما كيميائيا ضاق ذرعا من كل الخلطات والتراكيب .. كلما ضبط المقادير .. ووازن بين طرفي معادلة النجاح .. تنفس بألف شريان وبألف رئه .. وفي كل دورة ينبض قلبه بمليون دقة ودقة .. كان يتحسس النجاح .. لكن شيئا ما يفسد الخلطة في اللحظة الأخيرة ..
كان الشيخ عيسى بن راشد يوقن بأن مرج البحرين سيلتقيان يوما .. وسترتدي الأرض العطشى ثوبا سندسيا من غيث و مزن و قزاحيات مطر .. كان على ثقة أنه سيمسك بكل الخيوط التي تقود إلى الفردوس المفقود .. متى ..؟ .. الله وحده يعلم..
جاء منتخب البحرين إلى الدوحة غامضا .. جاء بمدرب برتغالي اسمه هوليو دي سوزا .. مدرب أشعث الشعر .. أغبر الوجه .. له لحية فوضوية .. وملابس ليست ارستقراطية .. مدرب غريب لم أصادف طوال حياتي المهنية مدربا مثله .. متمرد على كل شيء .. حاد الطباع .. جاد إلى درجة الهزل .. ليس هناك ما هو أغرب ولا أجمل من هذه المفارقة ..
جاء منتخب البحرين إلى الدوحة محملا ببطولة غرب آسيا في كربلاء .. جاء أيضا محملا بزهو انتصاره على إيران .. وتعادله مرتين مع العراق .. لحساب التصفيات المزدوجة ..
ورغم هذا السبق السيكولوجي إلا أن النقاد والمحللين وزعوا بطائق التكهنات يمينا و شمالا .. دون أن يشير أحدهم لا من قريب ولا من بعيد لمنتخب البحرين ..
وحدها (تووفه) جازفت و غامرت ومنحت البحرين اللقب.. على الأقل بالعاطفة قبل انطلاق الحدث الخليجي بيومين..
نعم كتبت مقالة ترحيب بالبطولة.. وقلت بالحرف الواحد في مقالة عنونتها خليجي اليوبيل الذهبي: ” إذا كان التعصب في الأسرة الواحدة شكل من أشكال الحياد، فإن في نفسي شيئا من الحماس لمنتخب البحرين، بصرف النظر عن حظوظه التي يراها النقاد و المحللون ضعيفة، وتعصبي أو تعاطفي مع منتخب البحرين ليس لأن لاعبه أحمد سالمين كان أول دفقة شلال في سجل مراقصة الشباك، إنما لأن البحرين كانت الحضن الدافئ الذي استوعب فكرة البطولة منذ 49 عاما”.
كانت قصة هتشكوكية مثيرة.. تلك التي فجر مشاهدها التي تحبس الأنفاس منتخب البحرين ..قصة بطلها فريق عمل متكامل .. تقاسموا الأدوار في كل المباريات ..دون نجم مطلق..
يحدث هذا لأول مرة في تاريخ كرة القدم.. منذ أن كانت الكرة مجرد جلد منفوخ يركلها الجنود المنتصرون في ساحات المعارك .. منتخب يلغي كل ثوابت كرة القدم .. مدرب يلعب كل مباراة بتشكيلة مختلفة .. ليس عنده الفوز مهما ..
المهم تلك المداورة التي كانت عكس المنطق تماما .. ومع ذلك نجحت هذه الطريقة الغريبة في منح الشيخ عيسى بن راشد حلمه .. حتى لو كان بمثابة بيضة ديك ..
ما الذي كان ينقص منتخب البحرين ليعانق كل النيسانات والأفراح ..؟
بالتأكيد الإجابة عند هذا الجيل الذي حقق اللقب .. بمجازفة مدرب كنا نظنه مجنونا .. فأثبت لنا أنه أعقل العقلاء ..
لن نهضم حق المدرب سوزا .. لا يمكن أن نعتبر طريقة المداورة بكل هذا الحمل النفسي أساس النجاح.. رغم تقديرنا لهذه الفلسفة الجديدة علينا .. إلا إذا كان سوزا يمتلك عصا موسى السحرية.. تلقف ما يأفك المنافسون ..!
الواقع أن منتخب البحرين لازال يتنفس من مسامات شيخه القيدوم عيسى بن راشد .. لازال اللاعبون يلعبون بقلبه وبعقله وبحماسه .. ويعزفون على أوتار عاطفته الجياشة .. نعم يمتلك منتخب البحرين 23 عصا سحرية .. تتمحور في 23 لاعبا..
أشعلوا النار والدخان في قلب الدوحة .. ولن ننسب هذا الإنجاز الرائع إلا لصبرهم و حماسهم و قتاليتهم وتقبلهم لطريقة سوزا .. ثم لعطائهم الكبير وجهدهم الزاخر .. وتضحياتهم لأجل البلد ..
نعم يا شيخ عيسى .. ليس هناك نجما فرديا واحدا نستطيع تتميزه .. كل لاعب قدم لنا ومضة .. ثم ترك الدور لآخرين .. عندما سجل محمد مرهون هدفا بارعا في مرمى العراق .. قلنا هذا مشروع نجم البطولة .. لكن سوزا أقعده إلى جواره في النهائي..
فغرنا أفواهنا دهشة لكن ما العمل مع مدرب عنيد يخالف الجميع؟ .. وترك الفرصة للقناص محمد الرميحي الذي لمع برقه في النهائي الكبير أمام المنتخب السعودي العملاق ..
تعلقنا قليلا بالمهاجم التحفة تياغو .. فرحنا معه قليلا أمام الكويت .. توقعنا أن يواصل الانفجار .. لكن سوزا عاد من جديد وأدخله ضمن حسبة التدوير .. يا إلهي ماذا يريد هذا الرجل بالضبط ؟ ..
هل كان سوزا هو نجم منتخب البحرين.. بغض النظر عن طريقته المربكة لكل الحسابات ..؟
في تصوري أن سوزا مهندس هذا الإنجاز الكبير .. وهو يستحق لقب نجم البطولة بلا منازع .. أولا : لأنه مروض ممتاز لنفسيات اللاعبين ..
وثانيا: لأنه خلق فريقين على درجة واحدة من المساواة والكفاءة .. وخلق تنافسا مستمرا بين اللاعبين..وثالثا: لأنه مدرب لا يتأثر بثرثرة المحللين .. ولا يهتز لأي انتقادات إعلامية مهما كان وزنها ..
كانت بداية منتخب البحرين قاتمة .. مملة .. تعادل بالأصفار مع منتخب عمان .. ثم خسارة أمام المنتخب السعودي .. وأمام الكويت لاحت معجزة الأربعة والتأهل للدور النصف نهائي .. كان نسق الفريق يتصاعد .. لكن معالمه ظلت غامضة.. لأن سوزا لا يثبت على تشكيل .. هو دائم التغيير في جل عناصره ..
ثم تخطى العراق بفريقه الثاني بركلات الترجيح .. هنا برزت معالم شخصية البطل .. بطل صنعته تناقضات سوزا .. وحرصه على المجازفة و التدوير والمنافسة الحارقة كالجمر ..
لعب النهائي بتشكيلة مختلفة تماما عن التي أقصت العراق .. أفلت السعودي سلمان الفرج ركلة حزاء .. كان سيد جعفر يحرق البخور في مرماه .. هنا أيقنت أن اللقب للحلواني البحريني ..
جاء هدف الرميحي في توقيت مثالي .. ثم شمع سوزا مرمى منتخبه بالشمع الأحمر .. أمتص الدفاع الأحمر كل الصقيع السعودي .. وكل كثافة الهجوم .. حاصر آليات الوسط .. استنزف الوقت .. وانتهى كل شيء ..
مرج البحرين يلتقيان أخيرا .. استدعى الربيع قبل أوانه .. تفجرت مقل المنامة بأنهار من دموع الفرح .. دموع حالية روت أرض المملكة فرحا وطربا ..
فرحنا كثيرا مع منتخب البحرين .. كنا معه في رحلته .. وكنا نتابع دائما قصة الشيخ عيسى بن راشد المثيرة .. الآن فقط سيضع الشيخ عيسى بن راشد رأسه على المخدة وينام ملء جفونه عن شواردها .. سيترك السهر لغيره .. لقد انتهت الحكاية .. حكاية عيسى بن راشد التي لن نفيها حقها .. لكن ملحمتها ستظل تحمل نسائم الخليج.. لآلئ الخليج و محاراته ..
أيها البحرينيون .. هنيئا لكم فردوسكم الذي لم يعد مفقودا.. بعد أن التقى مرج البحرين في خاتمة سعيدة للشيخ الذي نغطيه برموشنا .. شيخ سيظل علامة فارقة في دورات الخليج حتى بعد مليون بطولة .. شيخ وقف طويلا أمام باب كأس الخليج ولهانا .. يسأل عن تلك الحورية الحسناء التي دانت له بعد خمسين عاما من الرقة واللوعة والجوى ..!