ملحمة الأنفيلد .. المستحيل ليس ليفربوليا .. لماذا ..؟

تحليل- محمد العولقي

“يمكنك أن تخسر فقط عندما يكون في طريقك ليفربول”، صاحب هذه المقولة اعتزل اللعب قبل تسع سنوات، دخل خانة النسيان رغم أنه يصنف على أنه واحد من أفضل المدافعين في تاريخ اللعبة. لكن مقولة الإيطالي باولو مالديني ظلت عالقة في أذهان جماهير آي سي ميلان الإيطالي أكثر مما علق تاريخ مالديني الكبير مع ميلان بذاكرتها.

تشكيلة ليفربول في نهائي اسطنبول أمام الميلان 2005

لا أدري في الواقع لماذا نفضت التراب والغبار على مقولة مالديني بعد 14 عاما من لقاء نهائي إسطنبول الخالد بين ليفربول وميلان، لن أدعي في العلم فلسفة وأرفع عقيرتي قائلا: “كنت أتوقع أن يستلهم ليفربول من ملحمة إسطنبول تلك المقولة ليطيح بفريق برشلونة من نصف نهائي دوري أبطال أوروبا بصورة مؤسفة على كل حال”.

لا لا الأمر في الواقع لا يصدق، رغم أنني استعرت تلك الملحمة الإسطنبولية عندما ضغط علي رواد منتدى رياضي يضم نخبة من المحللين والفنيين في عدن، كنت آخر المتحدثين في تلك الأمسية التي سبقت لقاء العودة بين ليفربول وبرشلونة بثلاثة أيام كاملة.

شيء صعب أن تكون المتحدث الأخير في أمسية تضم كبار المدربين، فأنت مطالب بأن تأتي بما لم تأت به الأوائل، ووسط التفتيش في ذاكرتي عن مخرج جديد يعاكس آراء المنتدى التي أجمعت على أن مهمة ليفربول مستحيلة تماما، على أساس أنه من ثالث المستحيلات أن يسجل ليفربول ثلاثة أهداف ردا على ثلاثية برشلونة، لكن ليفربول في ملحمة الأنفيلد جعل المستحيلات أربعا على سن ورمح، وأكد أن مفاجآت ومفارقات كرة القدم ليس لها نهاية.

المهم أنني كنت الوحيد الذي تنبأ بالعودة المستحيلة في الأنفيلد، وكانت ملحمة إسطنبول هي الكارت الذي دفعني لمخالفة كل آراء المنتدى.. يبدو أن الامتعاض قد ارتسم على وجوه أعضاء المنتدى البرشلونيين، حتى أن أحدهم ضحك وهو يقول: “نفسيات لاعبي ليفربول في الحضيض، ثم إن الليفر بلا محمد صلاح وبلا فرمينيو وبلا نابي كيتا، بالله عليك كيف سينجو من تسونامي ليونيل ميسي ..؟

رفعت رأسي في كبرياء، ورحت أقص على الأعضاء كيف حول ليفربول خسارته من ميلان في الشوط الأول إلى تعادل صاعق بثلاثة أهداف لكليهما، قبل أن يفوز ليفربول بركلات الترجيح ويعانق لقبه الخامس أوروبيا ..

ثم أسهبت في الحديث عن الإعداد النفسي لمثل هذه المواجهات، وقلت لهم بالحرف الواحد: “ليفربول في هذه المباراة الصعبة وغير المستحيلة لا يحتاج إلى مدرب، قدر احتياجه لخبير نفسي يشحن بطاريات اللاعبين، ويجعلهم يدخلون الأنفيلد كوحوش جائعة لالتهام الخصم مهما كان وزنه، كرة القدم يا سادة علم ونظريات وظروف أخرى تولد داخل المباراة نفسها دون مساعدة منتظرة.

إنه الليفر يا سادة..

لو أن يورغن كلوب توجه إلى كل عرافات أوروبا، وحتى لو استعان بالكرات البلورية ولضاربي الودع لما تنبأ أحدهم بذلك السيناريو الدراماتيكي الذي شهده ملعب أنفيلد ليلة الثلاثاء المجنونة..

في نهاية المنتدى التقطت أذناي جلبة مع همهمة تتهمني بالجنون، وعندما قلت لهم: لا داعي إنه الليفر ..
قالوا لي: نحن نعرف الليفر حق المعرفة كما نعرف برشلونة عن ظهر قلب..
قلت لهم: للأسف أيها السادة أنا أيضا أعرف برشلونة، ولكني أعرف ليفربول أكثر ..

في الواقع لا أحد كان يراهن على ليفربول في أمسية أنفيلد المجنونة، حتى يورغن كلوب قالها للاعبيه في التمرين الأخير: مهمتنا مستحيلة تماما، لكننا سنلعب بكبرياء ليفربول..

فالفيردي

في الجانب الآخر كان آرنستو فالفيردي في حالة من النشوة، فالإصابات ضربت ليفربول وجردته من أخطر سلاح فتاك في الهجوم، بالطبع الأمر يتعلق بصلاح وفرمينيو، ويضاف إليهما نابي كيتا ملك التكتيك في الوسط، ومعركته مع السيتي استنزفت كل قواه البدنية والذهنية، في حين كان البرشا في وضع مريح بعد حسم لا ليجا، واقترابه من الفوز بالكوبادريه نهاية هذا الشهر.

لجأ كلوب إلى ترميم خط الهجوم بالموجود، شاكيري يسارا و أوريجي في عمق الهجوم، وعلى يمينه سادو ماني ..
حافظ كلوب على الرسم التكتيكي للفريق 4/3/3، لكن هذه الشاكلة ألقت بكل حمولتها على البرازيلي المتألق فابينيو .. كيف؟

أسند كلوب كل الأدوار الدفاعية في محور الوسط لفابينيو، وكان على هذا الأخير الحد من طوفان ليونيل ميسي، وإعاقة تحركاته في العمق، على أن يتولى هندرسون و ميلنر تغطية الرواقين انطلاقا من الوسط الطرفي وليس المحوري..

ومع أنها استراتيجية متوقعة إلا أن لاعبي برشلونة تفاجأوا من حجم القوة البدنية عند لاعبي ليفربول، وتفاجأوا أكثر من سرعة الامتداد والارتداد، وهي فلسفة رغم بساطتها إلا أنها أفرغت وسط ميدان برشلونة من محتواه، فظهر فيدال عصبيا وبوكسيتش منفعلا وراكيتتش منزعجا، فكان من الصعب على ميسي تأسيس الهجمة و إنهائها خصوصا وأن لويس سواريز قدم واحدة من أسوأ مبارياته على الإطلاق، وفليب كوتينيو كان خارج الخدمة تماما وبلا أية حيلة..

فينالدوم .. قشة قصمت ظهر برشلونة ..

فينالدوم

في مباراة كامب نو كان ليفربول منحوسا حتى العظم، بالمقابل كان برشلونة محظوظا حتى النخاع الشوكي.
لا أحد ينكر أن برشلونة في ملعبه كان متوترا وقلقا، ولولا تصديات الحارس تير شتيجن لفرص ليفربول المحققة لعرف اللقاء كارثة برشلونية مروعة، رغم كل ما يقال عن السذاجة التكتيكية لكلوب في تلك المباراة.

كان برشلونة محظوظا لأنه يمتلك بالفعل العبقري ليونيل ميسي الذي يأتي بالحلول الناجعة من أنصاف الفرص، لكن الاعتماد الكلي على ميسي هو من قصم ظهر بعير برشلونة في الأنفيلد .. كيف ..؟

تعامل فالفيردي مع مباراة الأنفيلد بنفس عقلية تعامله مع مباراة كامب نو ، مجرد اجتهادات في الدفاع ومناوشة في الوسط ، ثم ترك العصمة كلها بيد ميسي، متصورا أنه السوبرمان القادر على دك دفاعات الخصم دون مساعدة فنية أو تكتيكية ..
هل كان فالفيردي متأكدا من استحالة عودة اللليفر ؟

هل بالفعل ذهب إلى الأنفيلد للبحث عن هزيمة صغيرة لا تعوقه من التأهل للنهائي ..؟ حسنا .. ربما كان فالفيردي هو الأكثر اقتناعا باستراتيجية الجزئيات الصغيرة، ربما كان مقتنعا بأن المباراة ستلعب على خطأ من الخصم، لكن ماذا عن أخطاء فريقه التي لا تعد ولا تحصى عند فقدان الكرة ..؟

لماذا جعل العيوب الدفاعية تتعاظم وتكبر قبل تتحول إلى جبل من المخالفات يصعب التصدي لها ..؟ كان خطأ فالفيردي أنه استنسخ نفس تركيبة مباراة كامب نو ، حتى عندما فكر أن يحتال على كلوب بعد الهدف الثالث لجأ إلى نفس حيلة كامب نو، إخراج الصنم كوتينيو الذي لم يرفع ولم ينصب أي كرة مؤطرة، و إقحام نيلسون ساميدو في خانة اليسار مع عودة سيرجيو روبيرتو إلى محور الوسط، وبس خلاص جلس فالفيردي يتفرج على لاعبي ليفربول وهم يصولون ويجولون كخيول لا تتعب، منتظرا حالة إلهام سحرية من ميسي تبطل مفعول العاصفة الحمراء.

هذه المرة تفطن كلوب ورجاله إلى أخطاء المنافس، كانت جزئيات لاعبي وسط ودفاع برشلونة واضحة، لهذا استخدم كلوب الماكر نفس حيلة فالفيردي السابقة وغير بها معالم اللقاء تماما.

كلوب يضطر إلى استبدال سهم الجهة اليسرى الملتهب روبرتسون للإصابة، ثم يشرك الهولندي المقاتل فينالدوم مع تغيير في التكتيك، ملينر يعود ظهيرا في اليسار ويتموضع إلى جانب ماني في الامتداد، وفينالدوم يلتهم مساحة الوسط من العمق الأمر الذي خلق ارتجاجا تكتيكيا في متوسط دفاع برشلونة، كانت النتيجة أن فينالدوم صعق برشلونة بهدفين في ظرف أربع دقائق .. هل يمكنكم أن تصدقوا هذا التحايل التكتيكي لكلوب ..؟

ربما كان السيناريو سيتغير لو أن روبرتسون لم يصب، ففي هذه الحالة كان كلوب سيلجأ لتغيير أوتوماتيكي يخرج أوريجي ويدخل فينالدوم، لكن رب ضارة نافعة..

الأهم أن لاعبي ليفربول اقتنعوا أخيرا أن برشلونة يتنفس من رئة ميسي فقط، وفي حال أن تمت السيطرة على ميسي سيختنق برشلونة تكتيكيا ويموت موتا سريريا طويل الأمد ، لهذا كانت كتيبة الوسط جاهزة بكل الأجهزة لمنع ميسي من إمداد برشلونة بقبلة الحياة.

فابينيو .. أكل الجو على ميسي ..

هذه المرة نجح البوديجارد في إيقاف ليونيل ميسي عند حده، ونجح أيضا في تحجيم انطلاقاته التي لا توقف بالحسنى، ومع ذلك فقد كان ليفربول محظوظا في الأنفيلد تماما، وبرشلونة كان منحوسا في وقت يتطلب قتل المباراة، برشلونة أهدر فرصا محققة تارة لتألق الحارس إليسون بيكر أمام الأرعن سواريز والعصبي جوردي ألبا، وتارة أخرى لمبالغة ميسي في المراوغة والتأخر في اتخاذ القرار.

يمكنك أن تغدق على فينالدوم ما شئت من المديح، فقد نزل في الدقيقة الخمسين وغير معالم اللقاء بتسجيله هدفين، يمكنك أيضا أن تشيد بهدفي أوريجي من العمق، ويمكنك أن تنصف حيلة الظهير أرنولد في الهدف الرابع، ولا يمكنك بالطبع أن تنسى بطولة الحارس إليسون الذي أنقذ مرماه من ثلاثة أهداف مؤكدة، لا شك أن فان ديك نجح في ضبط الدفاع والانتصار في المواجهات الفردية، لكن النجم الحقيقي لملحمة أنفيلد الحمراء كان محور الوسط الدفاعي فابينيو ..

غطى هذا البرازيلي كل مساحات الوسط وحرم ميسي من الكثير من الكرات، كما انتزع كرات حاسمة من سواريز ، كان العنصر الذي شوش على رادار وسط وهجوم برشلونة.

استخدمه كلوب كمعول هدم وظيفته تكسير إيقاع برشلونة السريع عند امتلاك الكرة، نصب الكثير من نقاط التفتيش في الوسط، ثم أقام جمركا يمنع بموجبه تحرك قاطرات برشلونة دون دفع الضريبة.
ما كان للانضباط التكتيكي أن يصل مرحلة (التوب) لولا براعة فابينيو في التغطية وتكسير رتم برشلونة .. استرجع فابينيو الكثير من الكرات كان يسلمها عهدة، أما لهندرسون أو ميلنر ثم فينالدوم.

كان فانبينيو العصا التي يتكئ عليها ليفربول مع كل مسحة تألق من ميسي، تارة تجده في عمق الدفاع يتدخل أمام سواريز، وتارة تراه في الوسط ينتزع وينقب عن الكرات الضالة لتحويلها إلى هجمات شرسة تخفف العبء على دفاع ليفربول، خصوصا بعد تسجيل الهدف الرابع الذي انتزع به ليفربول التأهل من برشلونة.

* ريمونتادا ليفربول .. أسبابها ..

ترى ما هي العوامل التي جعلت ليفربول يقلب الطاولة على برشلونة في الأنفيلد، ويفوز بقوة الدفع الرباعي معوضا خسارة كامب نو بثلاثية نظيفة ..؟ بدون شك تقف الكثير من العوامل الموضوعية والذاتية خلف ملحمة ليفربول في الأنفيلد، لكنني هنا سأتحدث عن عاملين أساسيين ساهما في (ريمونتادا) ليفربول التاريخية.

كلمات كلوب كان لها أثر بارز على نفسية لاعبي ليفربول

العامل الأول: ذاتي يتعلق بالعامل السيكولوجي للاعبي ليفربول، عامل نابع من ذات اللاعبين ومن وحدتهم و إصرارهم على قهر المستحيل الذي لا يمكن أن يكون ليفربوليا أبدا.
كثير من المدربين يهملون هذا السلاح الفتاك ويكثرون من الحديث عن الإعداد الفني، مع ان الإعداد النفسي هو في الأساس من يجدد طراوة العامل البدني.

أحسن كلوب توظيف عناصره نفسيا، وأحسن عندما خفف من حجم ضغوطات رد الفعل في الإياب، لقد طلب من اللاعبين أن ينتصروا لكرامة موسم أحمر فاقع كان فيه ليفربول منافسا شرسا على جبهتي البريمر ليج ودوري أبطال أوروبا. كانت مهمة كلوب نفسية وليست تكتيكية، ومع ذلك فقد كانت مهمة صعبة بحكم الغيابات المؤثرة التي ضربت الفريق في أدق مراحل الموسم، ثم الإجهاد الذهني الذي نال من اللاعبين بحكم التنافس الشرس مع مانشستر سيتي.

تخيل فريق يفتقد إلى ماكنة أهدافه محمد صلاح، ويفتقد بدره فرمينيو، ثم يخسر كيتا ملك التغطية، ليس هذا فحسب لقد أضيف لونا آخر إلى ألوان القزاح الغائب، حين أرغم الظهير العاصفة روبرتسون على المغادرة بداية الشوط الثاني للإصابة، ورغم كل هذه المعضلات والظروف القاهرة ينجح ليفربول في كتابة إلياذة كروية جديدة، ربما كانت أقوى ألف مرة من إلياذة إسطنبول عام 2005.

العامل الثاني: موضوعي ويتعلق بالتوفيق الذي انحاز لليفر بعد أن تخلى عنه ذهابا، الواقع أن لاعبي برشلونة هم من مدوا يد المساعدة للاعبي ليفربول، مرة لأنهم حضروا إلى لأنفيلد بأجسادهم تاركين عقولهم في المترو بوليتانو ، ومرة أخرى لأنهم افتقدوا للعراكية والقتال على الكرة، كان واضحا أن برشلونة حضر لأنفيلد وهو واثق أن مسألة بلوغه النهائي مسألة وقت، قد تنتهي بخسارة صغيرة، وليس بكارثة حنطت كل محاسن برشلونة.

مرة أخرى يلدغ فالفيردي من جحر الثقة المفرطة بالنفس، بالأمس كان روما الإيطالي يذل ناصية برشلونة في الملعب الأولمبي، واليوم يعيد ليفربول استنساخ تلك المأساة، لكن بطريقة مروعة، تم فيها تلقيح جثث لاعبي البرشا في ليلة كان فيها ليونيل ميسي محاقا لا يراه سوى ظله ..!

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى