الأسطورة تحتجب

كتب- محمد العولقي

عندما يتذكر العراقي ليلة الرابع من يونيو 1986، ينبعث في نفسه أنين خافت غير قابل للمعالجة السينمائية، وحسرة منكسرة، وزفرات تحدث عنها أول من تحدث أحمد راضي ، المهاجم الذي أطرب العرب من المحيط إلى الخليج.. أغمض راضي عينيه إلى الأبد، لكن ذكرى ملعب نيميسيو دييز بمدينة تولوكا المكسيكية هربت من حتفه، لتبقى لوعة لكل مشتاق إلى تلك اللحظة المونديالية الخالدة.. مالت الشمس في السماء دهورا، وظل أحمد راضي شمسا وحده لا يميل عن الهوى.. لكن أي هوى وقد رحل عنا وفي حلقه غصة، وفي قلبه حرقة، وفي عينيه دمعة ..؟

يا قيثارة العراق، يا سحابة سمائه، يا من فاض غيثك حتى ارتوت كل العراق، ما مر عام إلا وفي العراق مطر .. مطر .. مطر .. كنت أنت النهر الخالد الذي يتمطى بصلبه على قلوب العراقيين، ليسقي الأفواه العطشى والبطون الجوعى .. في لحظة الحشرجة، طاف شريط حياة أحمد راضي في ملاعب كرة القدم، شريط مليء بالبطولات التي لا تعد ولا تحصى، شريط تلونه أهدافه الغزيرة غزارة أمطاره في أرض العراق .. لكن راضي في لحظته الأخيرة ضغط شريط حياته، لم يبق من طيفه سوى (فيمتو ثانية)، حملت زفرات مأساة الرابع من يونيو..

في ذلك اليوم، كان الفصل الأول من الحوار المونديالي بين العراق والباراجواي يوشك على النهاية، كانت الباراجواي تتقدم بهدف روميرو في الدقيقة 35 ..ومن ركلة ركنية من الجهة العراقية اليسرى أرسلت الكرة بالونية ارتقى لها أحمد راضي بقفزة هائلة قل نظيرها، حولها إلى شباك فيرنانديز حارس باراجواي، هدف جميل لا غبار عليه، فجر فرحة طاغية في حنجرة أحمد راضي.. لكن الغبار كله كان حكم المباراة ..حكم المباراة أدوين بينكون من موريشيوس رفض احتساب الهدف، بحجة أن زمن الشوط الأول انتهى والكرة في الهواء.. كان عذر أقبح من ذنب، لم يأبه الحكم لصافرات الاستهجان التي انطلقت ضد قرار الحكم، ولم يتوقف أحمد راضي عن تأنيب الحكم، لقد تعرض أحمد راضي لأكبر سرقة في مشواره مع كرة القدم الذي امتد لعقدين من الزمن، السرقة هنا تكون مأساة عندما يتعلق الأمر ببطولة كأس العالم ..

ظل هذا الهدف هاجسا يقض مضجع أحمد راضي، لم ينسه، ولم يستطع مداواة جرحه، أكثر من 34 وقلب أحمد راضي ينزف أحزانا، ويبكي هدفه أنهارا، وفي كل مرة يسقي العراق هدفا لا يبتسم إلا في النادر، فذلك الهدف الملغي زورا ظل يستنزف دموعه ويؤرقه ويطير النوم من عينيه المسهدتين.. عاش أحمد راضي بيننا بقلب مثقوب، وبعاطقة مشبعة بالألم، وبهموم كبرت وتضخمت حتى صارت أشجارا، تألم أحمد راضي كثيرا عندما استبعده المدرب العراقي عمو بابا من المنتخب وحرمه من المشاركة في أولمبياد لوس أنجلوس عام 1984، وتشنج كثيرا عندما عطلته الظروف عن امتحانات الثانوية العامة، لكن مرارة هذه الذكريات عند راضي لا تقارن بمرارة الحنظل الذي تجرعه زورا وبهتانا في تولوكا..عاش أحمد راضي حياته لاعبا ومدربا وقياديا متقشفا، خجولا، على وجهه مسحة حزن طبعها الزمن، ربما كانت حياته القاسية سببا من أسباب تجهمه، لكن تلك المعاناة فجرت في داخله كل براكين وحمم الإبداع ..

إذا كان منتخب العراق في الثمانينيات قد تسيد مختلف البطولات العربية والخليجية والآسيوية، ففي الواقع كان أحمد راضي القاسم المشترك الأكبر في هذه الإنجازات الكبيرة ..في كل بطولة يشارك فيها ينتزع بأهدافه أوسمة الذهب ولا يترك للآخرين سوى فتات لا يسمن ولا يغني من جوع .. كان رحمة الله عليه يرفع راية التحدي، فلا يسجل إلا الأهداف الصعبة والمستحيلة، قدمه الحساسة تحوي بوصلة تحدد بدقة مختلف الزوايا، ورأسه معمل رادار يرصد الهدف بعناية، لم أره يوما يهدر هدفا كان فيه وجها لوجه مع حارس المرمى، حسه التهديفي لا يفوقه فيه سوى ماركو فان باستن..

رحل أحمد راضي في صيف قائظ، وفي سنة كبيسة تعصف بالعالم، وترك لنا تراثا عراقيا يتشكل من أرقام مهولة تلامس قمة إيفرست يصعب الاقتراب منها حاضرا ومستقبلا.. عندما هز شباك الحارس البلجيكي البهلواني العملاق جان ماري بفاف، في الثامن من يونيو 1986 في تولوكا في الدقيقة 59، لم يصدق الحارس البلجيكي الذي كان وقتها حارسا لبايرن ميونخ الألماني الجرأة التي تحلى بها هذا الهداف، وضع راضي الكرة بدقة متناهية في الزاوية اليمنى من الوضع مائلا، كمن قذف الكرة بيده ..كانت لقطة رائعة عندما تقدم بفاف من راضي في نهاية المباراة قائلا :أنت مهاجم تمتلك كل خبث الثعالب، خسارة ألا تحترف في أوروبا، ويستمتع العالم بذكائك في الإنهاء المدهش للهجمات.، كان راضي زئبقيا يسجل من خرم الإبرة، لا أحد يجاريه في العشرين مترا الأخيرة ..دائما ترى في عيني أحمد راضي نظرة غامضة يصعب تفسيرها، نظرة تصلح لوحة فنية عالمية الطراز، لكن تلك النظرة عندما تختلط ببساطته وعفته وتواضعه وروحه الهادئة البعيدة عن كل لغات العنف، تكتشف أنك بالفعل أمام ابتسامة بطل يقطر تواضعا وأدبا وتعففا.. تأملوا أحمد راضي عن كثب، عينيه، جبهته، ملامحه ذات الطراز الذي يدخل القلب دون استئذان، يبدو مثل قناة يمتزج فيها ملح البحر بعذوبة نهر دجلة والفرات..

هو قيثارة الزمن، تجليات تتمايز الأشياء بتناقضاتها، حزن، دفء مشاعر، فرح مبهم، قلق، توجس، غموض لا تلتقي عقارب ساعته قط ..هل كان أحمد راضي يطارد خيط دخان ..؟، هل فعلا زرع في صدره جرحا لا يندمل ..؟، كل هذا لا يهم، فالذي وري جثمانه الثرى في عنفوان عمره كان مفتونا برحلته القصيرة مع الحياة من رأسه حتى إخمص قدميه..

من يقترب من أحمد راضي ويدخل غلافه الجوي، يكتشف فيه ذلك العشق الدفين لكل من حوله، عشق يصل أحيانا إلى كبت المشاعر، وإلى درجة التدليل، لا يبوح بأسراره قط إلا لصندوق قلبه الأبيض من لبن الحليب، يمكنك أن تقرأ على صفحات وجهه كل شيء، يومه، أمسه، ليله، نهاره، يمكنك أن تقرأ ألف حكاية وحكاية ..قبل أن يصطاده فيروس كورونا، تقدم منه طفل قائلا : أنا أحبك.. علمني كيف أقص جذور هواك من الأعماق ..؟، ضحك راضي كثيرا، ضحكته أنغام وورود، ضحك من قلبه المثقوب ببراءة، ثم ضمه إلى صدره قائلا : تعال بكره إلى الملعب وستتعلم .. لكن أحمد راضي لم يف بوعده، مع أنه لم يخلف يوما موعدا، لأنه مات، مات وفي صدره حلم ذلك الطفل العراقي .. رحل أحمد راضي في ليلة ليلاء، وتوقف أخيرا عند لحنه الأخير، لحن يحمل أنشودته التي عشقها وعاش مكافحا لأجلها، أنشودة المطر، للشاعر الذي رحل قبل الأوان بدر شاكر السياب ..

في العراق، كان أحمد راضي أسطورة الأساطير، تتنازعه الأندية، فهو البريمو دائما والرقم الصعب الذي يرتبط مع الانتصارات بحبل سري، كيف لا وقد ولد وعلى خده شامة المجد، وهالة القبول، كان محبوبا من كل الأطياف ..وعندما أسس عدي صدام حسين نادي الرشيد، وجعل منه غولا مرعبا يضم صفوة اللاعبين العراقيين الكبار، همس ذات صيف لاهب أنور جسام في أذن عدي قائلا : سيدي .. إذا كنت ترغب في التهام كل البطولات المحلية والعربية والقارية، اجلب أحمد راضي من الزوراء، وسترى فريقا عالميا مهابا.. لم يستطع أحمد راضي إخفاء مسحة الحزن التي تغلف وجهه البريء الهادئ، لكنه كان سريع البديهة، يستوعب المطلوب في ثانية، تعلم الكثير من علي كاظم، ودرس أسلوب فلاح حسن، وأسس فرقة موسيقية في خط الهجوم مع حسين سعيد.. طوى المسافات سريعا، فتفوق على أساتذته في وقت قياسي، حتى صار مدرسة خاصة بنكهة لاتينية فريدة في خلطتها وفي سحرها..كان المدافعون ينصبون له المفخخات والألغام والمشانق وينسجون حوله كل الغوايات، لكنه يتحرر من قيوده، ينطلق من كهفه، ويلون المدرجات بفرشاة قدميه، نحلة تطرح عسلا صافيا فيه لذة للشاربين ..

مالحة هي الكلمات في فمي، كيف ترثي لاعبا عظيما كان سلطان السعادة ..؟ كيف ترثي السهم العراقي الذي انطلق من قوس الزوراء بقصيدة تحمل بيان نعي الأسطورة ..؟، فرحيل أحمد راضي الدراماتيكي موجع بحق، ولا نملك في هذه اللحظات العصيبة على العراقيين وعلينا، سوى التسلح بقلب المؤمن الصابر الذي إذا أصابته مصيبة قال: إنا لله وإنا إليه راجعون ..كان راضي رومانسيا تقليديا، يعشق الشمس وهي جانحة للغروب، يرى مساءه في شفق يتدفق فيوشح الطلول ومياه دجلة والفرات بنقاب التخلص من رفاهية النهار، البكاء عند راضي دماء تنزف، ودموع تهتف ..الوداع .. الوداع ..

عشق راضي القيثارة، كان صوته لحنا شجيا، فهو كما قال المتنبي :فدع كل صوت غير صوتي فإنني .. أنا الطائر المحكي والآخر الصدى ..من دون سابق إنذار علق أحمد راضي وصيته الأخيرة على أجراس العاصفة، رحل عنا بليل متوشحا سحابته، حاملا رطبه، ومليون نخلة تشيعه إلى حيث آخى التراب، التراب الذي انتزعه يوما من مخلفات الاغتراب، وجعل منه معدنا عراقيا أصيلا يستحق أن يكون على رأس كل المعادن الثمينة و النفيسة ..رحل أحمد راضي وعلى لسانه أنشودة مطر، رحل دون ضجيج، دون قصة مشوقة، دون ديوان ينعيه، دون فلاشات تتاجر بلحظاته الأخيرة..

رحلت يا أحمد بابتسامتك الغامضة، ومسحة حزنك اللافتة، وليس لنا سوى لعق أحزاننا ودموعنا، ففي كل غيمة قطنية تسبح في سماء العراق سنراك متوشحا بألوان الطيف، ونردد مع طيفك أنشودتك التي خلصت العراق من جدبه وجوعه وفقره الكروي.. مطر .. مطر.. مطر ..!

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى