الهلال السعودي.. ما أروعك !

كتب- محمد العولقي

لا أتذكر اسم الشاعر الذي غازل الهلال السعودي قبل ربع قرن منشدا: إذا لعب الهلال فخبروني، فإن الفن منبعه الهلال.. بالتأكيد هذا البيت الشعري الخالد ترجمة رومانسية صادقة لعاشق هلالي متيم في هوى الأزرق من رأسه حتى إخمص قدميه، والأكيد أيضا أن الهلال أصبح فنا كرويا أصيلا ولحنا أزرق الهوى لا يغيب عن البال.. وأجمل ما في هلال الحاضر الزاهر الذي يتخذ من لون البحر شعارا له، أن لوحته الموجية واضحة المعالم خالية من تعقيدات الابتسامة الغامضة للوحة الجاكوندا، لوحة زرقاء عمقها يسر الناظرين دائما، ففي أحشاء بحرها الدر كامن من كل لون ونوع ..

شيء ما يشدك دائما إلى الهلال، ليس لأنه ارتبط بعقد مدى الحياة مع الأفراح والليالي الملاح فحسب، ولكن لأن لحظات المتعة التي نبحث دائما عنها ترتبط دائما بالهلال، ولا نجدها إلا في سوبر ماركت الهلال، وهي لحظات يهديها الهلال لعشاقه ومحبيه وحتى معارضيه مجانا، كيف لا وقد شيد في الرياض مليون خيمة للفرح يستظل تحتها كل هلالي وكل عابر سبيل وكل صاحب ذوق رفيع يرى في كرة القدم هلالا فوق مستوى الخيال.. أصعب شيء في كرة القدم كلعبة جماعية أنها تؤطر للحظة تذوب دائما في مجرى الأرقام التي لا تكذب دائما ولا تتجمل أيضا، وعندما ترتبط هذه الأرقام بكل متوالياتها الحسابية والهندسية بحبل سري بالهلال بالذات، فهذا يعني أن الهلال ينافس نفسه هذا الموسم، وما أصعب أن تتحدى نفسك وتحطم أرقامك وتهوي على النفس الأمارة بالسوء بمعول الثبات في العطاء وفي المستوى والنتائج التراكمية التي لا تتحدث إلا بلسان الفوز وبمراقصة شباك المنافسين..

كتب على الهلال تحطيم أرقامه في موسم لا صوت يعلو فيه على صوت هدير أمواجه، فهو ما يكاد يفتح مغارة علي بابا عائدا بكنوز الانتصار، حتى يستأنس بمغارات أخرى تحمل الكثير من المفاجآت السارة التي لا تخطر على بال كل عاشق غير ضال للهلال وتاريخه الطويل مع مجاراة ذاته وتحطيم أرقامه القياسية دون كلل أو ملل.. والهلال الذي يسكنه الشعراء في بيوت ذهبية من قافية ووزن، ليس بحاجة إلى ترجمة كل هذا الهوس الأزرق إلى معلقة زرقاء تنتصب كنصب تذكاري على بوابة نادي الهلال، فهو أساسا أكبر من كل المعلقات وأرفع ذوقا من أن يرهن العشق في تجاويف شعراء يتبعهم الغاوون ..

في كل بلد عربي هناك هلال أو أهلة، منها من نبحث عنها بتليسكوب هابل لأنها لا ترى بالعين المجردة، ومنها من تتوارى خجلا ولا تغادر مربع المحاق، هذا التفاوت الهلالي طبيعي لأن الهلال السعودي فوق مستوى التقليد، فهو الأصل والفصل السامر فوق مصلى محبيه وعشاقه، ومع احترامي لأهلة الدول العربية الأخرى، فالواقع يؤكد بالطول والعرض والارتفاع أن لا هلال في سماء وطني حبيبي الوطن الأكبر سوى الهلال السعودي، زعيم المجرة الذي يأتيك كل موسم بجلاكتيكوس في مستوى أعياد وكرنفال مدينته الزرقاء الفاضلة، حيث للوفاء وللحب وللعشق معنى وفن..

خلطة الهلال السحرية ليست سرا يخشى الهلال إذاعته، فهي نتاج خلطة بشرية متوازنة من إدارة وقورة تقيس خطواتها بأوقيات الزئبق، وجهاز فني لا تستهويه الأبواق الإعلامية ولا صخب الصوت العالي، ولاعبون منضبطون وملتزمون آخر التزام مدعومين بنوعية فريدة من محترفين ضبطوا موجة الهلال على مؤشر الثبات في الأداء، و الثبات في النتائج مع تجاوز كل طارئ برباطة جأش وقدرة فائقة على تصحيح المسار دون هواجس أو شكوك، بالإضافة إلى جمهور هلالي هدير حنجرته يحرك الصخر و يزلزل الأرض تحت أقدام الخصوم .. وعندما بصم الهلال على موسم استثنائي ابتلع طوفانه الهائج كل سفن وقوارب المنافسين في الدوري السعودي للمحترفين، كان في الواقع يتغول ويسحر ويمتع وهو يزاوج بروعة بين زعامته للقارة الصفراء، وبين رحلته نحو العالمية بفضل مركز رابع في مونديال الأندية، وهو إنجاز لافت حول الهلال إلى بدر مكتمل في سماء العالم ..

اعتادت مدينة الهلال الزرقاء على الأفراح والرقص على نور الهلال، فالفريق الذي يحتفظ بجينات الوراثة يظل دائما وفيا لمبادئ النادي، مخلصا لثوابته الإدارية التي تعد دستورا ينظم العمل في مختلف الدهاليز .. لم ينكث الهلال بوعده، ولم يخلف موعدا هو ميقاته وضابط ساعته البيولوجية، فمن أنس قبس الهلال عاش سعيدا في مدينته الطاردة لكل الأحزان والأتراح .. وأرقام الهلال دائما استثنائية في مدلولاتها، وهي أقرب إلى مجرة كروية مترامية الأطراف لا تحتاج إلى قوانين كوبرنيكوس، ولا إلى قدم الإيطالي جاليو جاليلي الذي ضرب الأرض من خلف ظهر الكنسية قائلا: ومع ذلك فإنها تدور ..

أما وقد تحول موج الهلال إلى طوفان يجرف في طريقه نحو لقب الدوري كل المنافسين صغيرهم وكبيرهم، فها هو يلقي بفيض خصوبته وطميه في أرض هلالية فتمتد حوله ظلال مدهشة فيها خصوبة المملكة من أدناها إلى أقصاها..، وإذا كانت رحلة الهلال هذا الموسم مليئة بالكثير من الألقاب الفردية منها والجماعية، إلا أنه أثبت حقائق تاريخية دامغة ليست محل شك، أبرزها أن الهلال تراثا ومكانة ليس زعيما على كرتي بلاده والقارة الصفراء فقط، لكنه أيضا زعيم للأرقام القياسية ولكل الكواكب السيارة والأقمار السابحة في مجرة المتعة الكروية، زعيم عادل من دخل قبته الزرقاء صار آمنا ضامنا أنه سيقضي رحلته الكروية على بساط الهلال في فرح وحبور و سرور ..

يدور حول الكرة الأرضية قمر واحد يلهب مشاعر الشعراء والعشاق، تماما مثلما أن للكرة المدورة هلالا يتلألأ لا يخبو نوره، يفجر قريحة القدم فينثر نوره على كل البقاع الجغرافية متوجا بثريا جميلة تغشي الأبصار من فرط وهجها الأزرق، دون أن يصاب هلالها الكروي يوما ما بالخسوف.. نعم من يكتب عن الهلال لابد أن يكون في مستوى الحدث، فالهلال الذي استنزف كل قوافي الشعر وكل مفردات الإطراء وكل محسنات البيان والبلاغة صار أكبر من كل قاموس محيط، صار في الواقع عيدا بل أعيادا تفجر كل تجليات الشوق والدهشة وكل مشاعر اللهفة مع كل لقب جديد يضيفه إلى عقده الفريد.. ونصيحة من كروي يعشق اللعبة الحلوة: شاهدوا الهلال ثلاث مرات قبل ووسط وبعد الأكل ولن تهرموا أو تكتئبوا، ومن لم يأخذ بهذه الروشتة الكروية الزرقاء فذنبه على جنبه ..!

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى