تحليل- محمد العولقي
“كرة القدم لعبة سهلة، لا يجب أن نعقدها بتكتيك يقضي على سهولتها”، يمكن أن تكون هذه العبارة مفتاح نجاح المدرب الوطني جمال بلماضي مع المنتخب الجزائري في كان 2019.
عندما أبحر محاربو الصحراء نحو البطولة الأفريقية، ودعتهم الجماهير الجزائرية بالكثير من الانقباض، والقليل جدا جدا من التفاؤل، ليس لأن المنتخب الجزائري عانى الكثير من الويلات في التصفيات أمام منتخبات مغمورة فحسب، ولكن لأن الخجل الذي يبديه (الخضر) في النهائيات يقلق بالفعل.
هل كان المنتخب الجزائري يعيش أزمة ثقة في اللاعبين، على الرغم من أن لاعبيه جلهم من المحترفين وفي الدوريات الأوروبية الكبرى ..؟
هذا السؤال تحول من صيغة الحاضر إلى صيغة الماضي، فنعدما أحال جمال بلماضي ذلك الإفلاس ووضعه كهامش أو عارض على رف الذكريات، كان في الواقع يؤكد أن الصياغة البشرية أو الاندماج في المجموعة هو ما كان ينقص (الخضر) طوال تلك السنوات الكبيسة.
لم يأت جمال بلماضي تكتيكيا بما لم تأت به الأوائل من خالف وكرمالي إلى سعدان وماجر، لم يخترع أسلوب لعب أو نظام فني جديد، بل كل ما فعله أنه اكتشف علاجا لداء الترهل الفني والتشبع النفسي، باختصار استخدم جمال بلماضي القاعدة التي يؤمن بها كل مدرب لاتيني يجرم أو يحرم سجن قطع الغيار الفنية.
نعم .. كرة القدم فلسفتها البساطة وليس التعقيد .. هذه القاعدة تنطبق على المنتخب الجزائري الذي يعلق على صدره الكثير من اللآلئ الفنية التي تخدم بساطة كرة القدم.
يمكن لأي مدرب تعقيد تلك البساطة بغطاء تكتيكي خشن وجاف في حال لم يتوافر على فنيات بحجم رياض محرز و بغداد بو نجاح وبن ناصر و يوسف بلايلي وعطال وفيغولي و آدم وناس.
كان جمال بلماضي يعلم تماما أنه يقود حافلة جزائرية مفخخة بالمواهب الفنية ذات القيمة العالية، وكانت صعوبة المهمة تتمحور حول قدرة بلماضي على صهر كل تلك المزهريات في قالب تكتيكي يتناسب مع القيمة الفنية لكل تلك الدرر الثمينة.
المهمة الشاقة لبلماضي
قبل البطولة تساءل فنيون و محللون حول كيفية السيطرة على ذلك المنجم المليء بالمواهب الذهبية ..؟ كان السؤال مثل الكرباج يجلد بلماضي مع بداية الاستنجاد به كمنقذ، وعندما يضاف إلى ذلك الطيف سؤالا خطيرا من طراز: هل بلماضي يمتلك مقومات الساحر، كي يردم الهوة الواضحة من زمان بين اللاعبين المحترفين واللاعبين المحليين ..؟
لم يكن في وسع بلماضي الانشغال بالأسماء على حساب الفكرة، كان يؤمن طوال مسيرته كلاعب أن البساطة مع اللاعبين الموهوبين يمكن أن تخلق أجواء تنافسيه مثيرة، تكون فيها الغلبة للاعب الذي يقاتل ليذوب في المجموعة.
مارس بلماضي الكثير من الذكاء في خلق أجواء تنافسيه شريفة خالية من فيروسات الغيرة القاتلة أو عقدة النجومية المتفشية جزائريا، لم يحك ثوبا تكتيكيا إلا بعد أن اطمأن أنه صاغ مجموعة مندمجة، يكون فيها اللاعب الاحتياطي أهم من اللاعب الأساسي.
ربما كان اللاعب الجزائري المحترف صعب المراس، ويصعب ترويضه من طرف مدربين سابقين كانوا يضعون هؤلاء المحترفين أولوية لا تمس بغض النظر عن مردودهم مع المنتخب ميدانيا، كان اسم الفريق الأوروبي الذي يلعب له اللاعب هو من يحدد أهميته من عدمها في المنتخب، وليس عملية اندماجه أو مردوده مع المجموعة.
جمال بلماضي عالج هذه الإشكالية المرهقة من خلال معسكر ودي أذاب فيه الكثير من الفوارق بين المحترفين والمحليين،
في المعسكر الإعدادي لم يركز بلماضي على الصورة، بل منح الإطار وقتا ليحتوي صورة متناسقة الألوان حادة التعابير قوية المدلول.
غاص بلماضي في نفسيات اللاعبين، اقترب منهم، شاركهم تفكيرهم، فخلق أجواء وطنية نبضها الجزائر ولا غير. من كان يستطيع إقناع ياسين إبراهيمي الجلوس احتياطيا، ثم مشاركة اللاعبين داخل الملعب انفعلاتهم؟
من هذا المدرب الذي يجرؤ على وضع إسلام سليماني على الدكة، وهو المحترف في أوروبا، ثم يعتمد على مهاجم السد القطري بغداد بو نجاح أساسيا لأنه يخدم منظومة البساطة أكثر من سليماني؟
من كان يتوقع ردة فعل آدم وناس الهادئة وهو يلعب دور الورقة الرابحة لدقائق قليلة في كل لقاء؟ من كان يتوقع منكم أن يكون النجم الأول للمنتخب الجزائري احتياطيا فرض نفسه هدافا للمنتخب من مقاعد الاحتياط..؟
من كان يجرؤ على منح لاعب في عمر الورود (إسماعيل بن ناصر) مقاليد حكم وسط الميدان..؟ من كان يتصور أن يكون يوسف بلايلي هو الأساسي على الجهة اليمنى وليس ياسين أو حتى فيغولي..؟
أي مجنون هذا الذي يمكنه اختراع تموضع جديد للاعب سفيان فيغولي في وسط الملعب كمقاتل من العصور الوسطى، وهو المهاجم الحريري الأنيق والذي لم يمارس (النينجا) القتالية طوال مسيرته الاحترافية..؟
من كان يتصور أن يتحول رياض محرز من حائك ومطرز للحرير إلى فدائي في يمينه عطاياه وفي يساره ضحاياه ..؟ حقيقة قصة المنتخب الجزائري مع جمال بلماضي قصة مشوقة فيها الكثير من الإثارة التي تحبس الأنفاس، كما كان الحال مع قصص ألف ليلة وليلة.
محاور فلسفة بلماضي
كان تأثير الجانب النفسي على الأداء الجماعي واضحا في فلسفة جمال بلماضي، ظهر ذلك من خلال السرعة في التفكير والتنفيذ وفي اللعب المباشر، ثم القدرة على التحكم في تغيير إيقاع الأداء. وإذا كان جمال بلماضي قد قدم خلطته السحرية بكل هذا الثبات في المستوى، فلأن فلسفته استندت على ثلاثة محاور:
المحور الأول: الثبات الفكري والذهني في منهجية اللعب، الدفاع ككتلة واحدة، والهجوم المباغت بأكبر قدر ممكن من لاعبي الوسط والرواقين.
المحور الثاني: فرض سرعة إيقاع الأداء ثم الضغط من الأمام للخلف، وهذه الفلسفة تدفع الخصم إلى ارتكاب الأخطاء في المناطق الفعالة، وللتدليل على ذلك تذكروا سيناريو هدف رياض محرز في مرمى نيجيريا في نصف النهائي، وفي توقيت قاتل عبر ركلة حرة مباشرة.
المحور الثالث: شاكلة اللعب نفسها التي أكسبها جمال بلماضي الطراوة البدنية والذهنية، وما كان لبلماضي أن يحافظ على منسوب الأداء التصاعدي من مباراة لأخرى لولا أنه تخلص من عقلية الحرس القديم، ثم أقدم على حقن شاكلته بمحلول من الشباب على غرار بن ناصر (أفضل لاعب في البطولة) و بغداد بو نجاح (صاحب هدف البطولة في مرمى السنغال) وعطال ويوسف بلايلي (الاكتشاف المذهل).
التكامل التكتيكي .. قوة محاربي الصحراء ..
أثبت جمال بلماضي أن الهجوم الفعال هو نتاج دفاع منظم ومتزن، بهذه الفلسفة البسيطة ظل أسلوب بلماضي يتوزع بين شاكلة 4/2/3/1 و شاكلة 4/4/2، لكن هذا التوزيع رغم اختلافه ظل يعتمد على مبدأ المجازفة الهجومية، مع ضرورة الانضباط الدفاعي لتجنب الأخطاء الفردية في وسط الملعب.
استطاع الرباعي الدفاعي عيسى مندي وجمال بلعمري وبن سبعيني وعطال ثم مهدي زفان ابتداء من مباراة ساحل العاج، أن يبتلع تصورات بلماضي، ثم يعززها من حلال التألق الكبير للحارس المخضرم أمبولحي في الأوقات الصعبة.
الشيء الذي نجح فيه بلماضي بامتياز أنه سيطر سيطرة مطلقة على المجموعة، ثم زرع فيهم القتالية، وهذه الميزة ما كان لها أن تصنع الفارق لولا التكامل التكتيكي والتوظيف الإيجابي لفرديات اللاعبين المهاريين خصوصا محرز وبلايلي و بو نجاح وحتى يوسف عطال سهم الجهة اليمنى الملتهب.
أظهر لاعبو الجزائر قدراتهم على أداء الكثير من الأدوار التكتيكية هجوميا ودفاعيا وفقا ومتطلبات كل مباراة، كما أمكن للمنتخب الجزائري من خلال قوة ترابط خطوطه وفاعلية بدلائه استرداد الكرة من الخصوم بسرعة، خصوصا عند الضغط المباشر على المنافسين من منتصف ملعبهم، أثناء الارتداد الدفاعي.
لقد أحسن جمال بلماضي حقيقة في التعامل مع كل مباراة على حدة، كان التدرج في الأداء يتصاعد من مباراة إلى أخرى حسب فلسفة المدرب، وهكذا نجح المدرب في تطبيق مبدأ فاعلية التنظيم حسب توزيع الأدوار التكتيكية، كما نجح في فرض قناعاته وبسط نفوذ شخصيته داخل وخارج الملعب.
ومهما يقال من إن بلماضي لم يكن خيار الرابطة الجزائرية، بقدر ما كان خيارا شعبيا يمكن القول إن الكرة الجزائرية كسبت منتخبا واعدا يستطيع أن يكون فرس رهان في المونديال القادم، كما كسبت مدربا كبيرا وخبيرا أنهى الحرب الباردة بين المحترفين والمحليين..!