الانسحاب الغامض ..!

كتب: محمد العولقي

صبيحة يوم الأربعاء الموافق 31 مارس من العام 1982 .. كانت الأمور في مدينة الشيخ زايد آل نهيان طبيعية وتسير على ما يرام .. كانت اللجنة المنظمة لفعاليات دورة كأس الخليج السادسة تضع اللمسات الأخيرة تحسبا لمباراة المساء الحاسمة.. التي ستحدد هوية الفائز باللقب بين منتخبي الكويت والعراق ..

كل الأجواء المحيطة بالملعب تشير إلى أننا أمام مباراة مارثونية أخرى كالتي عشنا تفاصيلها في النسخة الرابعة .. كان صباح ذلك اليوم يتماشى تماما مع أغنية الساندريلا الراحلة سعاد حسني .. الدنيا ربيع والجو بديع .. قفل لي على كل المواضيع ..

انحصر اللقب السادس بين العملاقين الكويتي و العراقي .. منتخب العراق كان على مرمى حجر من الاحتفاظ بلقبه الذي أحرزه لأول مرة في الدورة الخامسة ببغداد .. ومنتخب الكويت كان يراهن على فريقه الرديف الذي خلا من النجوم الذين أوصلوا الأزرق إلى مونديال إسبانيا .. فقط تم تطعيم المنتخب بثلاثة لاعبين خبرة.. عبدالعزيز العنبري و يوسف سويد و ناصر الغانم ..

كانت اللجنة المنظمة على موعد مع آخر الترتيبات .. وكان الملعق الكويتي المخضرم خالد الحربان يتناول إفطاره مع العنبري .. وهو يحذر من خطورة الهداف العراقي الكبير حسين سعيد.. صاحب الأهداف الخمسة في الدورة ..

كل شيء كان طبيعيا وهادئا ذلك الصباح .. لم يكن أحد يخطر بباله أن ذلك الهدوء سيسبق عاصفة لا تبقي ولا تذر ..

استحوذت تلك المباراة على اهتمام الوطن العربي من خليجه إلى محيطه .. كانت الحدث الذي يترقبه الجميع .. وبدأت التغطيات التلفزيونية و الإذاعية مبكرا في تقديم برامج خاصة .. منها ما يتعلق بالتوقعات .. ومنها ما يتعلق بدراسة نقاط الضعف والقوة في كلا المنتخبين .. ومنها ما يتعلق بتصريحات المعسكرين الأزرق و الأخضر ..

ووسط كل هذا الشحن الإعلامي الكبير والترقب و الأصداء.. كانت في انتظار الجميع مفاجأة صادمة .. مفاجأة ألجمت الألسنة ..وأبهتت الحدث في مسك ختامه .. نهاية تصلح للأفلام الهندية التي أعتدناها في تلك الفترة ..

ففي حين كانت اللجان تستعد لوضع آخر اللمسات على المباراة .. وفي وقت كان المدربان يترقبان مؤتمرهما الصحفي .. ألقى رئيس الوفد العراق بقنبلته وسط كل هذا الشحن والترقب .. وكانت مفاجأة .. مفاجأة سحبت كل إثارة يوم الحسم .. وجعلت البطولة كلها على كف عفريت ..

عند الساعة العاشرة والنصف صباحا.. تسلم الدكتور أمير إسماعيل رئيس الوفد العراقي.. رسالة صدامية صادمة حملها الأثير من صدام حسين رئيس الجمهورية العراقية .. وكانت الرسالة تحمل أمرا صارما واضحا.. الانسحاب من الدورة فورا ودون نقاش.. وعدم خوض مباراة البطولة أمام منتخب الكويت ..

سادت حالة من الارتباك في مقر الوفود واللجنة المنظمة للبطولة .. لم يصدق رئيس اللجنة المنظمة ذلك لولا أنه قرأ برقية صدام حسين عشر مرات قبل أن تنتقل الدهشة بكل حمولتها لأعضاء الوفد الكويتي ..

حاولت جهات سياسية إثناء الرئيس العراقي عن قراره الذي لم يمر أصلا عبر بوابة الاتحاد العراقي .. لكن دون جدوى .. فالرجل تعود دائما على المجازفة وعدم التراجع .. حتى لو كان في ذلك هلاك لشعبه.. أو فشل لبطولة ..

إذا كنتم تبحثون عن مثال لكيف يكون العذر أقبح من الذنب .. لربما جسده موقف صدام حسين.. الذي كان قراره في الظاهر الانسحاب من الدورة لصالح المنتخب الكويتي.. رغبة من صدام في رفع الحالة المعنوية للاعبي الأزرق الذين سيمثلون كل العرب في مونديال إسبانيا بعد شهرين فحسب ..

تبرير صدام حسين المضحك و المبكي معا.. كان يخفي في باطنه السبب الحقيقي خلف هذا القرار الذي اتخذه.. في وقت كانت مسألة فوز العراق باللقب مسألة وقت ..

ناقض الرئيس العراقي الراحل نفسه تماما.. وبدأ وكأن وراء هذا الانسحاب من اللقاء الأخير والمصيري بعدا سياسيا بعيدا كل البعد عن الشماعة التي تذرع بها في رسالته ..

كيف يبرر صدام حسين قرار الانسحاب بأنه يهدف إلى رفع الروح المعنوية لمنتخب الكويت .. مع أن كل الخليجيين يعلمون أن منتخب الكويت شارك أصلا بالفريق الثاني.. الذي لا علاقة له بالمنتخب المشارك في نهائيات كأس العالم ..؟

فجر ذلك اليوم استقبل الرئيس العراقي صدام حسين مندوبا غامضا.. لم تكشف هويته قط .. اجتمع به الرئيس العراقي لأكثر من ساعتين في مكتبه .. لا أحد يعلم ما الذي دار في ذلك اللقاء .. ولا ماذا تناول؟ .. لكن بعض المقربين عزوا تلك السرية إلى أجواء الحرب المستعرة بين العراق و إيران في ذلك الوقت ..

كانت دولة الكويت أميرا وشعبا مع العراق في تلك الحرب .. حتى أن الشيخ فهد الأحمد الجابر الصباح رئيس الاتحاد الكويتي لكرة القدم شارك كمتطوع مع الجيش العراقي ..

المهم أن الرئيس صدام أمر بكتابة رسالة الانسحاب بعد خروج الرجل الغامض بأقل من ساعتين .. لا أحد يعلم هل كان المندوب الغامض وراء إقناع صدام بالانسحاب غير المبرر .. ؟

ومع ذلك فإن كل المؤشرات كانت تدل على أن قرار صدام كان فرديا يتماشى مع مزاج شخصيته المتقلبة ..

كانت مفاجأة بالنسبة لمساعدي الرئيس العراقي حين قال لهم :
سننسحب من دورة الخليج السادسة بعد ساعة من الآن ..

لم تكن صدمة المساعدين تكمن في قرار الانسحاب نفسه.. قدر صدمتهم من أن الرئيس العراقي لم يكن يوما مهتما بكرة القدم ولا ببطولاتها .. حتى أنه لم يحضر يوم تتويج منتخب بلاده بلقب بطولة كأس الخليج الخامسة.. رغم أنها جرت في بغداد وعلى بعد أمتار قليله من مخدعه ..

السؤال الذي يبرز من بين رماد السنين وبعد مرور 39 عاما .. ما هو السبب الحقيقي الذي دفع صدام للانسحاب ..؟

و إذا كان صدام يهمه منتخب الكويت كما قال زورا وبهتانا.. فلماذا لم ينسحب من بداية الدورة ..؟

لماذا تأخر القرار إلى أن كان العراق على مرمى حجر من البطولة ..؟
هل كان الرئيس متخوفا من الخسارة أمام منتخب رديف جاء بالصف الثاني ..؟
الأكيد لا .. لأن صدام لم يكن يوما من متابعي كرة القدم.. حتى يعتبر الانسحاب مبدأ كرامة ..

إذا أعدنا ترتيب الحكاية بمنطق وفق تسلسل الأحداث.. لربما كانت الغيرة هي الدافع الحقيقي لذلك الانسحاب الغامض ..

لم يكن الرئيس العراقي متابعا جادا للدورة الخامسة التي أقيمت في بغداد .. لكن أوداجه انتفخت كثيرا عندما أخبره عزت إبراهيم بأن العراق نظمت أفضل نسخة خليجية .. وأكد له أنه من المستحيل تنظيم دورة ناجحة كدورة العراق ..

هذا الزهو سرعان ما بدأ يقل و يخفت ويفتر مع أصداء الدورة السادسة التي استضافتها دولة الإمارات العربية المتحدة.. وبمنشآت أقل ما توصف بأنها كانت حديثة ونقلة نوعية في البنى التحتية في منطقة الخليج ..

غير ذلك كانت الدورة تحظى برعاية واهتمام فارس العرب المغفور له بإذنه تعالى الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان .. كان يحضر .. يرصد .. ويتابع .. ويقابل الضيوف .. ويضعهم على كفوف الراحة .. في ظل زخم إعلامي مقروء و مسموع ومرئي غير مسبوق بالمرة ..

أفرزت البطولة مستويات فنية رفيعة.. في ظل شراسة في المنافسة على اللقب .. لكن الأهم أن الدورة نالت العلامة الكاملة في التنظيم .. ربما لهذا السبب قرر صدام حسين أن يسحب من الدورة رصيد هذا النجاح الكبير .. أو على الأقل يبهت ختامها لغرض في نفسه ..

قرار صدام الانفرادي والذي يعكس طبيعته ونرجسيته.. لم يحرم منتخب بلاده من نيل اللقب للمرة الثانية على التوالي فقط .. بل إن قراره المتعنت ظلم المهاجم الكبير حسين سعيد.. الذي تنازل عن لقب هداف كل دورات الخليج للكويتي المرعب جاسم يعقوب ..

سجل حسين سعيد 17 هدفا في مشاركاته .. وتم حرمانه من خمسة أهداف كاملة سجلها في دورة الانسحاب .. وهذا طبيعي بحكم أن نتائج منتخب العراق شطبت في تلك الدورة .. وحرمت حسين سعيد من مجد خليجي كبير غير مسبوق .. كان سيجعل منه ملكا للأرقام حتى الدورة رقم مائة .. لكنه صدام وقراره الأرعن غير المبرر ..!

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى