في زمن الحرب وكورونا.. ناشئو اليمن الفسحة الأخيرة أمام هجوم الموت الضاري!

تقرير / محمد العولقي

منتخب ناشئي اليمن من تحت رماد ومخلفات القنابل والصواريخ الذكية والغبية ليصرخ في وجه العالم: سنلعب مع علب الموت الزؤام مباراة حياة أو فناء..

مهلا أيها العالم، ففي زمن تطحن فيه الحرب أطفال اليمن، وتعركهم عرك الرحى بثفالها، على حد وصف الشاعر الجاهلي زهير بن أبي سلمى الذي عنف الحرب قائلا:

وما الحرب إلا ما علمتم وذقتم .. وما هو عنها بالحديث المرجم، يصرخ لاعبو منتخب ناشئي اليمن صرخة معاناة من تحت خط الموت الزؤام، صرخة أنارت ما بين السماء والأرض دون أن تحرك مشاعر العالم، بمن فيهم مشاعر ذلك العربي الذي يمتلك مال قارون، والذي اشترى لوحة سيارات بمبلغ مالي يكفي لإعالة أكثر من مليون طفل يمني يعيشون على شفا مجاعة لم ير لها العالم مثيلا، على حد وصف تقرير (يونسيف) لشهر أغسطس 2020..

مهلا أيها العالم الفظ، ففي زمن يعاني مترفوك من التخمة، ومن سمنة مفرطة في الأجساد والعقول، ينتفض منتخب ناشئي اليمن من تحت رماد ومخلفات القنابل والصواريخ الذكية والغبية ليصرخ في وجه العالم: سنلعب مع علب الموت الزؤام مباراة حياة أو فناء..

مهلا أيها السادة، يا من توارى كباركم وصغاركم عن الأنظار هروبا من شبح كوفيد طائر يقبض الأرواح دون رحمة، فهاهم ناشئو اليمن يتنفسون رائحة البارود في ملاعب ترابية ويستعدون برباطة جأش يحسدون عليها لنهائيات أمم آسيا، يداعبون حلما موندياليا طال انتظاره، يركضون تحت دانات المدافع وأزيز الطائرات والسيارات المفخخة، وهم يصرخون في وجه العالم الذي تخلى عن طفولتهم وأحلامهم في وطن لم يعد سعيدا: أبدا لن نتوقف.. لن يهزمنا وباء كورونا ولا شبح الحرب والمجاعة.. لايعنينا أن فيروس كورونا يتربص بنا، ولن نهتز وإن اقتحم علينا ملاعبنا الترابية وافترسنا بلا رحمة..

في زمن الهجرة إلى العزلة، والهجرة إلى عالم مخيف مرعب، يخالف ناشئو اليمن العالم الذي تخلى عنهم وجلس زعماؤه يتفرجون على أشلاء اليمنيين وهي تتمزق ليلا ونهارا بفعل حماقة الفرقاء السياسيين، لقد راوغ هؤلاء الفتية الصغار الموت، دائما يحملهم معه ويحملونه معهم إلى الملاعب الترابية والمعشبة صناعيا، لكنهم لا يبالون به، سواء جاء من السماء في صورة قذيفة هاون بنيران صديقة، أو من الأرض على هيئة لغم مزروع في الملعب، فهم يؤمنون بالقضاء خيره وشره، ففي ظل عيشة ضنكا تصعب على الكافر، فالموت بكورونا يتساوى في زمن الحرب مع الموت جوعا، الأمر في كلتا الحالتين سيان ..

إننا نلبي نداء غامضا يستحيل أن نصم آذاننا إزاءه، نشعر أن الله فوقنا يحمينا ويبارك لنا، البقاء في البيت يعني الاستسلام للجوع وللموت البطيء، فمن لم يمت بكورونا مات من الجوع

تعرفون حكاية أسماك السلمون، تلك الأسماك التي تهاجر كل عام من مكان إلى آخر، قاطعة آلاف الأميال غير آبهة بما يسقط منها من ضحايا، ناشئو اليمن مثل تلك الأسماك، يتنقلون من ملعب إلى آخر في رحلة محفوفة بمخاطر الأمراض الفتاكة الأشد ضراوة من المجاعة، فيسقط منهم من يسقط، لكنهم أبدا لا يتوبون، فكرة القدم سلواهم الوحيدة في زمن الحرب الطاحنة، عشقهم السرمدي الذي ينسيهم للحظات زمن المجاعة والجوع وانهيار الاقتصاد وانخفاض العملة اليمنية إلى ما دون الصفر..

صحيح أن ظهور فيروس (كوفيد 19) كان مباغتا لعشقهم الكروي (دخلت الجائحة اليمن في 5 أبريل 2020)، لأنه راح يتوغل في الملاعب المفتوحة بسرعة فائقة وسط ظروف بيئية سيئة للغاية، بفعل الأزمات التي تصنعها الحروب عادة، إلا أن صغار اليمن سرعان ما خالفوا القاعدة الشهيرة (خليك بالبيت)، لأسباب تتعلق بالحاجة أحيانا وبضيق ذات اليد في أغلب الأحوال ..

سألت لاعبا في منتخب الناشئين ( الظهير الطائر عمر الطيري)، والذي كان أحد أهم الأسباب التي ساهمت في تجاوز الإقصائيات الآسيوية في الدوحة: لماذا تخالفون الأوامر بهذه السذاجة واللامبالاة، دون وضع العواقب الوخيمة من فيروس كورونا في الحسبان ..؟،

أجابني بكلمات بريئة ركبت حروفها من دم:

“إننا نلبي نداء غامضا يستحيل أن نصم آذاننا إزاءه، نشعر أن الله فوقنا يحمينا ويبارك لنا، البقاء في البيت يعني الاستسلام للجوع وللموت البطيء، فمن لم يمت بكورونا مات من الجوع، إنهما خياران أحلاهما مر بالطبع ..”.

حسن الكوماني لاعب وسط منتخب ناشئي اليمن، والذي تألق في التصفيات الإقصائية، يداوم على مداعبة الكرة مع زملائه في ملعب ترابي لا يصلح للاستهلاك الآدمي، هو الآخر يرفض التخلي عن معشوقته كرة القدم، ولا يطيق صبرا وهو ينتظر نهائيات الأمم الآسيوية في البحرين على أحر من الجمر ( النهائيات ستنطلق أواخر هذا العام 2020)، يقول اللاعب الواعد عن المخاطر البيئية والأمراض المستعصية التي أودت بحياة الآلاف:

“نداوم يوميا على أداء مباريات مع الفرق الشعبية دون اكتراث بفيروس كورونا القاتل، نشعر دائما أن العناية الإلهية تحرسنا، فالله سبحانه وتعالى الذي وسعت رحمته كل شيء لا يجمع بين عسرين ..”

رأيت العشرات من الناشئين ( تحت سن السادسة عشر) يجرون اختبارات فنية في ملعب نادي الجلاء العدني في أغسطس 2020، سيارات ومركبات انتهى عمرها الافتراضي أقلتهم دون ضوابط طبية إلى الملعب من مختلف حارات عدن وما جاورها، كان المشهد العام يؤكد أنهم هدف سهل لفيروس كورونا .. لا كمامات .. ولا تباعد .. ولا إجراءات بسيطة للسلامة .. كان الأمر يقتصر على إتاحة الفرصة أمام كل فريق لعشر دقائق، بعدها ينطق مدرب منتخب الناشئين بالحكم، ويختار من يراه مناسبا للمنتخب في المرحلة الأخيرة ..

وما يحدث ليس فيلما فنتازيا يخالف كل القواعد الكروية المتبعة في العالم بما فيه من متطورين ومتخلفين، لكنه في اليمن حيث لا اهتمام حكومي بفئة الناشئين يعد عملا روتينيا متعارف عليه، اتحاد الكرة نفسه يعاني منذ ثلاثين عاما من سوء الإدارة وانعدام التخطيط وغياب الفهم الحقيقي لطبيعة الأدوار، فلم يسبق له تنظيم بطولة ناشئين على مستوى الجمهورية اليمنية، تترك المهمة هنا لاجتهادات الأندية مرة، ولفرق الحواري في مرات عديدة ..

لا تتعجبوا ولا تندهشوا فهؤلاء الصغار الذين يتحدون مثلث الشيطان : الحرب والمجاعة وجائحة كورونا ليسوا خريجي دوري، وليسوا خلاصة فكر أندية أو مدرسة أو مدرب، لكنهم في الواقع من إنتاج الشارع أو الحارة، أما مدربهم الحقيقي الذي يعلمهم ويصقل مواهبهم ومهارات (الخذ والهات) التي أسرت قلوب من شاهدوا مباريات منتخب اليمن في الدوحة، فليس رجلا من لحم ودم..

اللاعب الصغير المهاجم محمد دنبر يقربنا أكثر من فلسفة وهوية مدربه: ” تعودنا دائما في الحارات على مهارات التصويب نحو الجدار، نركل الكرة نحوه فيعيدها إلينا، وهكذا أصبحنا نتقن التصويب والتمرير الدقيق مع إجادة (الون .. تو) المعروفة ..”، أعترف أنني مثلكم صعقت للإجابة، ولو لم تكن من طفل بريء في عمر الورود لما صدقت ، والحقيقة أن كلام اللاعب الصغير يتطابق تماما مع مقولة خالدة للنجم الفرنسي المعتزل الأسطورة زين الدين زيدان مدرب ريال مدريد حاليا:” لم أكن أعي أهمية الجدار عندما كنت أمارس معه تقنية الهات وخذ في مارسيليا، لكن عندما أصبحت لاعبا محترفا أدركت أن الجدار أستاذ كبير ..”

منتخب اليمن.. المستحيل الرابع

قبل المشاركة في تصفيات كأس آسيا التمهيدية للناشئين في الدوحة، انتقى الجهاز الفني ثلاثين لاعبا بعد أن أجرى اختبارا روتينيا لأكثر من 500 ناشئ في عدن وصنعاء واب وحضرموت، والمسألة هنا تزداد صعوبة مع تقارب مستويات الصغار، فالفوارق الفنية والبدنية والفيسلوجية تكاد تكون نسخة طبق الأصل، وهذا طبيعي في بلد يتمتع بمواهب فطرية غنية المحتوى رفيعة المستوى .. لم يخض منتخب اليمن مباريات ودية ذات قيمة، فظروفه القاهرة فرضت عليه أن يؤدي الوحدات التدريبية في وضع نفسي رهيب للغاية، ونظرة سريعة إلى البلد المتشظي سياسيا ستصيبك برغبة جامحة في البكاء..

قالت منظمة (أنقذوا الأطفال) ومقرها بريطانيا: “إن نحو 85 ألف طفل ما بين الخامسة إلى الخامسة عشر قضوا نحبهم بسبب سوء التغذية، بالمقابل حذرت الأمم المتحدة مؤكدة أن حوالي 16 مليون يمني باتوا على حافة المجاعة بعد تدني مستوى الريال اليمني أمام الدولار الأمريكي (الدولار الواحد بلغ حافة 700 ريال في سبتمبر 2020، وقد يصل إلى 1000ريال أو أكثر بحلول العام الميلادي الجديد، كما يتوقع الاقتصاديون المتخصصون في الشأن اليمني )، وتشير التقديرات الأولية إلى أن نحو 84.700 طفل ماتوا في الفترة من أبريل 2015 – و هو عام بداية النزاع المسلح في اليمن – إلى أكتوبر 2018، ولا شك أن عدد الضحايا من الأطفال قد تجاوز المائة ألف بحلول عام دخول كورونا إلى اليمن ..

وهكذا بدأ منتخب ناشئي اليمن رحلة التصفيات الآسيوية ولاعبوه يشاطرون شريحتهم الحرب والمجاعة وتفشي الأمراض والأوبئة القاتلة، ومع إضافة فيروس كورونا إلى حلبة اليمن المهترئة أصلا، بلغ معدل الوفيات بين شريحة الصغار حدا مخيفا ومرعبا، فقد أكدت بعض التقارير الأممية موت طفل يمني (من الخامسة إلى الخامسة عشر) كل عشر دقائق، لأسباب كان يمكن تجنبها لولا الحرب التي ترفض وضع أوزارها بعد ست سنوات مريرة أكلت ما تبقى لليمن من أخضر وبابس .. ومع كل هذه المخاطر التي كانت ولازالت تتربص برحلة منتخب ناشئي اليمن، رفع الصغار التحدي وقرروا رسم ابتسامة ولو باهتة على محيا وطن الثلاثة آلاف حضارة، بكل تأكيد توجب على منتخب براعم اليمن أن يضيف مستحيلا رابعا إلى مستحيلات العرب الثلاث: الغول والعنقاء والخل الوفي ..

اجتاز منتخب ناشئي اليمن التصفيات بنجاح منقطع النظير، فاز على بوتان بعشرة أهداف، وعلى بنجلاديش بثلاثية نظيفة على بساط الجدارة والاستحقاق، ثم تعادل بهدف لهدف مع المستضيف منتخب قطر الذي يضم خلاصة أكاديمية إسباير العالمية، فحل وصيفا في المجموعة بفارق هدف وحيد عن منتخب قطر صاحب الأرض والجمهور .. كان أبرز ما في رحلة منتخب اليمن في التصفيات، تلك الدموع التي ذرفها مساعد المدرب الكابتن محمد حسن البعداني بعد التأهل مباشرة، ردا على سؤال لقناة الكأس : هل لديكم في اليمن مدرسة كروية تنهلون منها مثل هذه المواهب التي تفوقت على خريجي الأكاديميات ..؟،

جاء تأهل منتخب اليمن إلى نهائيات كأس آسيا ليحيي في اليمنيين جثث الفرح، لكن الواقع أن فاتورة التأهل كانت باهظة، لأن مفارقات دامية سبقت هذه التصفيات وما تلاها بعد التأهل إلى النهائيات ..

حكايات ومفارقات تراجيدية مؤلمة

تعلق (أم علي) قميص فلذة كبدها على مشجب أزرق في صالة متهالكة وجدار متصدع يوشك على الانهيار، ومن حولها يلتف ثلاثة أبناء في سن متفاوتة من مرحلة الطفولة، ذلك القميص لبرشلونة الإسباني ويحمل رقم البرغوث الأرجنتيني ليونيل ميسي .. تطلق (أم علي) تنهيدة حارة من أعماق أعماقها، ثم تنساب الدموع الحراء على خديها، وهي تروي حكاية علي بصوت يكاد يختنق بغصة في حلقها ..

“كان يوما داميا، قرص الشمس كان يحتضر في ليلة ذات صيف كبيس من العام 2015، الشفق يلون الملعب الترابي الذي ينتمي لمحافظة أبين جنوب اليمن ( يبعد عن عدن العاصمة الاقتصادية لليمن الموحد 60 كيلو مترا)، كان علي (ابن الثانية عشر ربيعا) يلعب مع زملائه في الحارة، ولم يبال لا هو ولا زملاؤه بالقصف المتبادل بين طرفي النزاع بمختلف الأسلحة الثقيلة منها والمتوسطة، كانت المباراة بين الصبية في رمقها الأخير، يومها كان علي يصول ويجول ويبدع، فقد تلقى تعهدا بأن يكون ضمن قوام منتخب ناشئي اليمن لعام 2020، فجأة سقطت قذيفة هاون بعد منتصف الملعب قليلا، وتطايرت في الحال أشلاء ثلاثة من اللاعبين، كان من بينهم علي الذي لم يبق من أشلائه سوى ذلك القميص المعلق على المشجب الأزرق” ..

مات علي وهو لازال يحلم بكوب الحليب الذي وعدته به أمه في المساء، ووريت أشلاؤه الثرى وفي داخله يسكن حلم اللعب في نهائيات آسيا 2020 وكأس العالم للناشئين عام 2021 .. تنتحب الأم المكلومة بصوت تقطعت له نياط قلبي، وتضيف وهي تحتضن صغارها:

“ذات يوم شاهد أحدهم ابني علي وهو يلعب الكرة و يؤدي نفس حركات ميسي، جاء إلي قائلا: “سيدتي لديك كنز ثمين هنا، هذا الصبي عبقري وفريد من نوعه وقد وعدته أن ينضم إلى منتخب الناشئين للعام 2020، سيكون وقتها قد بلغ سن السادسة عشر، وأراهن أن هذا الصغير سيكون نجما كبيرا في قارة آسيا، كان الرجل الذي قال لي إنه خبير فني في اتحاد الكرة اليمني جادا في طرحه، وكان كمن فتح أمام علي ثغرة نور وسط ظلام دامس” ..

لم تشأ الأم أن تخبر الرجل الفني أن زوجها ذهب ضحية لحرب مدمرة وقودها الناس والحجارة، لقد كتمت الأم آلامها وأحزانها وهي تحث صغيرها البكر (علي) على تطوير نفسه استعدادا لليوم المرتقب ..

أشعر أن لاعبي منتخب الناشئين أولادي، أرى بينهم طيف علي يلعب الكرة ويحلم مثلهم بكأس العالم، ففي وقت لا نملك شيئا ولا حتى قوت يومنا، لا يبالي أطفالي كثيرا بالجوع عندما يشاهدون مباراة مسجلة لمنتخب الناشئين

بالفعل جاء الرجل إلى بيت الأم المكلومة، باحثا عن كنزه الكروي الثمين (علي)، فلم يجد له أثرا، فقط كان ذلك القميص المعلق على المشجب أبلغ من الكلام .. تقول (أم علي) وهي تنتحب وتبكي فلذة كبدها بكاء الشاعرة الخنساء لأخيها صخر:

“أشعر أن لاعبي منتخب الناشئين أولادي، أرى بينهم طيف علي يلعب الكرة ويحلم مثلهم بكأس العالم، ففي وقت لا نملك شيئا ولا حتى قوت يومنا، لا يبالي أطفالي كثيرا بالجوع عندما يشاهدون مباراة مسجلة لمنتخب الناشئين، هذا المنتخب الذي كان حلم علي هو السبب في إدخال الفرحة إلى عائلتي الصغيرة، ففي فترة الحرب والمجاعة والأوبئة القاتلة مثل كورونا تعم الفوضى كل البلاد بصورة لا مثيل لها، كان صيف هذا العام قاسيا مع دخول الجائحة اليمن، لازلنا نتناول الطعام نفسه صباحا ومساء، ثم جاء منتخب الناشئين كهدية من السماء ليخفف عن أولادي جزءا من هذه المأساة ..”.

وإذا كان (علي) الذي يتشبه بميسي بات حديث ذلك الحي الذي شهد مأساة اغتيال البراءة في ليلة ليلاء دون وجه حق، فإن مصير محمد أحمد( يطلقون عليه في حارته وفي المنتخب لقب بوتشي) اختلف تماما عن مصير علي البائس..

محمد ينتمي إلى مديرية مودية ( إحدى مديريات محافظة أبين، وهذه المحافظة يطلقون عليها برازيل اليمن، لأن مواهبها من النوع الفطري النادر، نوع يولد ويتكاثر على الرمال وفي الأزقة والحارات، وهي أيضا تعد أكبر مصنعا منتجا ومصدرا للاعبين إلى مختلف الأندية اليمنية)، شأنه شأن المغدور به علي، تنفست موهبة محمد في الحارات، وبزغت قدراته مبكرا للغاية في الشارع، وفي سن الخامسة عشر كان محمد مطلوبا ليلعب رسميا مع نادي فحمان ( ناد ينتمي للدرجة الأولى في اليمن، وجل لاعبيه صناعة محلية لا تشوبها شائبة) ..

وفي ذات اختبار أجراه الجهاز الفني لمنتخب الناشئين، كان أمام محمد خمس دقائق فحسب للكشف عن موهبته الخارقة بلمح البصر، كان عليه أن يثبت جدارته قبل أن يرتد لمدرب المنتخب الكابتن محمد النفيعي طرفه، وقد أفلح في لفت أنظار كل طاقم الجهاز الفني بمعجزة حقيقية، وهكذا غدا محمد عنصرا فعالا في التصفيات الآسيوية (سجل خمسة أهداف تصدر بها هدافي التصفيات في الدوحة أواخر العام الماضي، ويتوقع له الفنيون أن يكون بوصلة منتخب اليمن في نهائيات آسيا بمملكة البحرين أواخر هذا العام) ..

ومن حال محمد، تأملت في أحوال ناشئي اليمن الآخرين، ثم شردت للحظات بعد ما استوقفتني السياسة وبلاويها في يمن تقطعت أوصاله، تذكرت اللاعب الشبل عادل وجدان شاذلي، فهذا الفتى نجل كابتن منتخب اليمن وواحد من أهم أساطيرها في القرن العشرين (وجدان شاذلي) أنقذته الظروف من مخالب الأمراض والأوبئة الزاحفة والطائرة، فرحل صغيرا وقد كان في الثالثة من عمره إلى سويسرا، وهناك اختار التعايش مع الدقة السويسرية وحيادها الإيجابي، وعندما حانت لحظة الاختيار، اختار اللعب لمنتخب ناشئي سويسرا دون تردد، وسبحانك ربي، فعادل الشبل ولد على شاطئ عدن، لم يخطط لا هو ولا والده لأن يقضي حياته في سويسرا، لكن لأنه نصيبه وقدره أرسل له نظاما سياسيا فاسدا ليدفعه إلى قدره المكتوب، بالمقابل اختلف مصير الصغير حسام السودي عن مصير عادل، فحسام الذي يعيش مع والده في باريس فضل نار منتخب اليمن على جنة فرنسا، وهو الآخر يبحث عن قيراط حظ يتيح له مشاركة زملائه بلوغ القمة الشماء في البحرين أواخر هذا العام ..

ومن حكاية عادل وجدان شاذلي وحسام السودي بكل متناقضاتها وأبعادها إلى حكاية الشاطر حسن، الشبل الذي كان محط أنظار الكل، نظرا لموهبته الفذة الخارقة التي أدهشت المحيطين به، حكاية لها مذاق العلقم، هذا لأنني كنت شاهدا على موهبة هذا الفتى الطائر وعلى مصيره البائس، فإلى أصل وفصل الحكاية التراجيدية المؤثرة ..

كورونا.. من مأساة حسن إلى مواجهة الموت الضاري

لمنتخب ناشئي اليمن أقول بلامواربة: المونديال أمامكم والشعب اليمني المهووس بكرة القدم خلفكم، وبلوغ المونديال هدية لكل الأطفال الذين قضوا نحبهم دون رحمة

في مارس من هذا العام 2020، قادتني قدماي إلى ملعب ترابي في مديرية لودر (واحدة من مديريات محافظة أبين أيضا، برازيل اليمن)، توقفت برهة أمام صبية يلعبون مباراة ساخنة، ثم تسمرت عيناي أمام الصغير حسن (شبل في الخامسة عشر من عمره) يلعب الكرة الجميلة بخفة قط سيامي جميل، وبعقلية تنم عن موهبة فطرية لم أر لها مثيلا، كان حسن يرتدي قميصا رياضيا ممزقا، لكن أسلوبه في التعامل مع الكرة دفعني إلى مراقبته كظله (مان تو مان)، وبطريقة مشابهة لمراقبة الإيطالي كلاوديو جينتيلي للأرجنتيني دييجو مارادونا في كأس العالم بإسبانيا صيف عام 1982، وما إن انتهت المباراة حتى تقدمت من ذلك الصغير، ربت على رأسه في حنان أب ثم سألته: أين تعلمت كل هذه الحركات الفنية التي أتحفتنا بها أيها الصغير ..؟، توقعت أن يقول في المدرسة أو في النادي، لكنه غمغم وبراءة الأطفال في عينيه قائلا : في الحارة ..!، كان يبدو على عجلة من أمره، فقد كان يرفع رأسه بين الفينة والأخرى إلى السماء، ربما كان يخشى قذيفة صاروخية من نيران صديقة، فهو إذن يريد العودة إلى البيت قبل حلول الظلام ..

لم أشأ مقاطعة رغبته التي لها ما يبررها على أية حال، غير أنني همست في أذنه قائلا : سأعود إلى هنا الشهر القادم، عليك أن تكون جاهزا لأنني سأخضعك لاختبار تنضم بموجبه لمنتخب الناشئين الذي يستعد لخوض نهائيات كأس آسيا في وقت لاحق من هذا العام (أي 2020)، سيلعب منتخب اليمن في مجموعة تضم منتخبات الإمارات وسلطنة عمان وطاجيكستان، وهي مجموعة يراها الفنيون باليمن في متناول الأحمر اليمني الصغير ..

اتسعت عينا حسن، بدأ وكأنه لم يسمع جيدا، لقد ازدرد لعابه في صعوبة، وهو يتمتم: أيها السيد، أخشى أنني لم أسمعك جيدا، هلا كررت علي كلامك ..؟، قهقهت وأنا أربت على رأسه قائلا : لقد سمعت كلامي، عليك تجهيز ملف يحوي شهادة ميلادك وأربع صور شخصية، فعندي يقين أنك ستقنع الجهاز الفني لمنتخب الناشئين، ومن يدري يا فتى ربما تكون الرقم الصعب الذي يقود منتخبنا إلى نهائيات كأس العالم للناشئين ..؟، أدرت ظهري استعدادا للمغادرة، لكن يد الصغير أمسكت بيدي، وهو يقول : هل هذا وعد أيها السيد ..؟، امتلأ وجهي بابتسامة مشرقة، وأنا أجيب: نعم يا صغيري، هذا وعد ووعد الحر دين عليه.. ثم بترت كلامي، وأنا أتأمل قميص حسن الممزق، قبل أن أضيف : سأعود إليك في أبريل، سأهديك قميص البرتغالي كريستيانو رونالدو لأنك نسخة مصغرة منه، وعندها سوف أصطحبك إلى تمارين المنتخب، لكن بشرط أن أراك في صحة جيدة وفي مستوى أفضل ..

كنت في الواقع قد أجريت بعض الاتصالات ببعض أعضاء الجهازين الفني والإداري لمنتخب الناشئين، أصغوا إلي باهتمام، وهم الذين يعرفون مدى بصيرتي الفنية كمحلل وناقد رياضي، انتزعت الموافقة في الحال، وكان لابد أن أتحرك بسرعة لأطرق الحديد وهو ساخن، لكن تأتي الرياح بما لا تشتهي السفن .. ففي الخامس من أبريل 2020 ارتبكت حياة اليمنيين أكثر مما هي مرتبكة، فبالإضافة إلى الحرب التي أوقفت دوران الكرة في الملاعب الرسمية، هجم وباء كورونا على اليمن مثل طائرات الشبح التي تحصد أرواح اليمنيين دون أن يراها أحد..

تعطلت الحياة مع هذا الظهور المباغت للوباء، وكان لابد مما ليس منه بد، ارتفعت يافطات السلامة مع تحذير (خليك بالبيت)، وراح الوباء الغامض يتوغل بسرعة مخيفة حاصدا أرواح يمنية كانت في الأصل تحت رحمة أمراض وأوبئة مستوطنة على غرار الملاريا والكوليرا وحمى الضنك .. وفي أقل من شهرين تجاوز عدد ضحايا كورونا الألفين، مثل غيري التزمت بإجراءات السلامة في وطن يفتقد أصلا إلى أبسط إجراءات السلامة في ظل اللادولة والحرب المستعرة بين الفرقاء السياسيين ..في أغسطس 2020 تلقيت اتصالا من الجهاز الفني يحثني على إحضار اللاعب الصغير حسن إلى ملعب الجلاء بمدينة المنصورة (واحدة من أهم مديريات محافظة عدن العاصمة المؤقتة التي اختارتها الحكومة الشرعية المعترف بها دوليا) ..

ارتديت الكمامة حاثا الخطى نحو الملعب الذي يتدرب عليه الصبية، حتى تلك اللحظة كنت أعتقد أن الحياة الكروية متوقفة بسبب تفشي كورونا، لكن مع اقترابي من الملعب أدركت أنني كنت سيء الظن، لأن الملعب كان يشهد حركة مصحوبة بالبركة.. تقدمت من خط التماس، ثم نظرت إلى لاعب صغير يتابع المباراة بين زملائه، دنوت منه متسائلا : أين حسن يا شاطر .. لا أراه والعتب على النظر إن أخطأت تمييزه ..؟، هز الصغير رأسه، وهو ينظر خلفه قائلا: حسن .. هناك .. كان يومئ نحو ذلك الشاهد الذي يستظل تحت شجرة عتيقة جردتها الرياح من أوراقها ..حملقت في ذلك الشاهد، ثم جف لعابي تماما محاولا معرفة مصير حسن، ويبدو أن الصغير شعر بصعوبة موقفي فأضاف متحسرا : لقد أصيب حسن بحمى مفاجئة مثلنا تماما، لكنه لم يقاوم فمات ..

ثم عض الصغير شفته السفلى حتى أدماها وهو يستدرك قائلا : يقولون إنه قضى نحبه بحمى الملاريا، لكنهم يكذبون في الغالب ..صمت الصغير فجأة قبل أن يزدرد لعابه، وهو يضيف في مرارة : ربما كان كورونا هو القاتل الحقيقي ..حاولت ضبط أعصابي والتماسك أمام الصغير، لكن قنوات الدمع بدأت عملية الصرف غصبا عني، أمسكت يد الصغير متسائلا والغصة تخنق حلقي : لماذا إذن تلعبون هكذا ووباء كورونا معكم داخل الملعب ..؟، اندفع الصغير داخل الملعب وهو يلوح بذراعيه معا قائلا : سنحارب كورونا بوجوه عارية، إما أن نكون أو لا نكون ..خجلت من نفسي فانتزعت الكمامة وألقيتها بعيدا، ثم هرولت نحو ذلك الشاهد الذي يضم رفات حسن، اقتربت من الشاهد ثم جلست القرفصاء، أخرجت من معطفي قميص كريستيانو رونالدو ووضعته على قبر حسن، بكيت بحرقة كما لم أبك من قبل، ولم أكن لحظتها قد تنبهت إلى أن السماء بدأت سحبها الداكنة تبكي رحيل البراءة في عنف ..

أصبحت الآن أكثر تعلقا وشغفا بأخبار منتخب ناشئي اليمن، ذلك المنتخب الذي يحلم به الصغار، وفي سبيله يمارسون عشقهم الكروي بهوس في زمن الحرب والمجاعة وكورونا.. إذا كتب لهذا المنتخب التأهل إلى نهائيات كأس العالم للناشئين، سيكون هذا النصر هدية لتلك الأرواح البريئة التي تعددت أسباب معاناتها والموت واحد، وسيكون هذا المنتخب هو الوحيد الذي هزم أسطورة كورونا دون لقاح ودون كمامات، وبالتالي يستحق من (الفيفا) أرفع جائزة إنسانية، هذا إن كانت لديه مشاعر ليست مشفرة.. لم يبق لليمنيين في زمن الحرب والمجاعة والأوبئة وجائحة كورونا سوى كرة القدم، فهي بالنسبة للناشئين والذين يتساقطون داخل وخارج الملاعب الترابية كالفراش المبثوث أكسير الحياة، إنهم يمارسون حبهم العذري لكرة القدم بتلقائية ويسخرون من واقعهم الذي جعل منهم في زمن الحرب حطبا ووقودا لوباء كورونا، هذا لأنهم يرون في كرة القدم الفسحة الأخيرة لمتعة الحياة أمام الهجوم الشامل للموت الضاري ..

لمنتخب ناشئي اليمن أقول بلامواربة: المونديال أمامكم والشعب اليمني المهووس بكرة القدم خلفكم، وبلوغ المونديال هدية لكل الأطفال الذين قضوا نحبهم دون رحمة، فعندما استوقفت طفلا أمام قبر حسن متسائلا : لماذ اختار حسن هذا المصير المؤلم، وهو يعلم أن وباء كورونا لا يرحم صغيرا ولا كبيرا ..؟، رد الصغير، وكأنه ملاك هبط من السماء : لأجل مثلي في الحياة..!

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى