كرة القدم في زمن كورونا.. بين الرجاء و الواقع!

تحقيق – محمد العولقي

دائما يختلف العالم بقاراته المترامية الأطراف من أقطار متقدمة و أمصار نامية، حول سؤال جدلي أشبه بالخلاف البيزنطي الشهير حول البيضة و الدجاجة ، السياسة أكثر تأثيرا في حياة الشعوب أم الرياضة ..؟
من المفترض أن يدفعني سببان للانحياز للرياضة على كفة السياسة :
فأنا أولا – وأعوذ بالله من شر نفسي و سيء عملي – من أهل الرياضة ، مارستها بشغف وعشق، فكانت زادي في ممارسة الكتابة الرياضية المحترفة ناقدا و محللا لأكثر من 25 عاما ..

وثانيا : أعاني من جهل مركب في فك طلاسم السياسة ، وعلاقتي بها أشبه بعلاقة القط توم بالفأر جيري ..
لكن سببا ثالثا يجعلني أرجح تأثير كفة الرياضة على حياة الأمم و الشعوب هو عام 2020، ففي هذا العام توارى السياسيون عن الأنظار و دخلوا بياتا شتويا طويلا ، تاركين الجمل بما حمل للرياضة وحدها ..
وللذين سيسألون : وما علاقة العام 2020 بالأمر ، خصوصا وأن الدراسات والبحوث العملية تؤكد أن الرياضة لا يمكنها العيش بمعزل عن السياسة ..؟
أجيب بلا تردد .. إنه العام الذي نجحت فيه الرياضة و تحديدا كرة القدم في تطبيع حياة الشعوب، ولو بالمشاعر بعيدا عن التصدعات السياسية و عنصرية النفخ في المجامر ..

ففي الوقت الذي كان فيه السياسيون يروجون دائما لسياساتهم القمعية بكل ايديولوجياتها من الملاعب هروبا من التقلبات و المتاعب ، هجم وباء كورونا ولا هجوم الحلفاء على النازيين في معركة نورماندي ، وراح هذا الوباء الغامض ينتشر و ينتشر كخيط دخان متخطيا كل الحدود و الإشارات السياسية الحمراء ، ووسط ارتفاع منسوب الضحايا أعلنت حالات الطوارئ في كل مكان ، فتحول العالم أمام شراسة كورونا إلى سجن صغير ينشد نزلاؤه السلام، خوفا من الندامة ، باحثين عن السلامة حتى ولو تحققت في زنزانة لا يدخلها الهواء و الشمس ..

ربما أتاحت جائحة كورونا لشعوب العالم فرصة استعادة مبدأ التكافل الاجتماعي في ظل عزلة لم ينجح السياسيون في تخطيها، أو حتى إعلان الحرب الشاملة على هذا الفيروس الطائر الذي يلهتم ضحاياه ولا يشبع من الإيقاع بالمزيد ..
حار السياسيون في أمر محاربة (كوفيد 19)، وفي كيفية حماية الرعايا من بئس المصير، وقف زعماء وقادة العالم سياسيا مكتوفي الأيدي لا حول لهم ولا قوة بعد أن باتت زمام المبادرة في قبضة فيروس عجيب و غريب نبت من العدم، في لحظة تحولت فيها القدرات العسكرية بمختلف أسلحة دمارها الشامل وغير الشامل عاجزة عن حماية من كانوا يتحكمون في رقاب البلاد و العباد ..

ووسط أبواب مغلقة وعالم مقنع بإرشادات السلامة ، تحركت الرياضة و تحديدا كرة القدم لتمنح الشعوب أملا في إعادة الحياة إلى مجاريها و سابق عهدها، ففي زمن كورونا و فيروسات الموت الزؤام، ما أصعب العيش في انتظار المجهول لولا فسحة الأمل ..

مباراة فالنسيا وأتالنتا بدون جماهير

تخلى السياسيون عن العالم ، هربوا من شر كورونا مع فاصل من الغناء ، ففي لحظة اختبار لمدى تأثير السياسة على حياة الناس ، اختار السياسيون أنفسهم و عائلاتهم و أموالهم ، وتركوا شعوبهم تواجه المصير المؤلم ..
انشغل الجيش الأبيض بالبحوث ليلا و نهارا طمعا في إيجاد لقاح ينقذ البشرية من هذا الشر المستطير ، لكن كان أهم ما يشغل بال أهل السياسة في ظل أزمة استحكمت حلقاتها دون بادرة انفراج هو صفقات السلاح و عدم توقف المصانع عن إنتاج المزيد من ترسانات أسلحة الدمار الشامل وغير الشامل ..

وعندما توقف دوران الكرة في مختلف ملاعب العالم ارتبكت حياة الشعوب أكثر مما هي مرتبكة، كان الأمر بالنسبة لأسرة كرة القدم (الفيفا) استراحة جس نبض ، لم تكن هروبا من مسؤولية تعزيز ثقة الجماهير بجدوى و أهمية الكرة ، فكان أن ظهر رئيس الاتحاد الدولي لكرة القدم جياني إنفانتينو متحديا عاصفة كورونا، وهو يضرب الأرض بقدميه كما فعل جاليليو جاليلي قائلا : ومع ذلك ستدور كرة القدم رغم أنف منظمة الصحة العالمية ..

في عز ازدهار كورونا في روسيا ، توفي لاعب ينتمي لأندية الظل هناك ، إلى هنا و الأمر عادي لأن كورونا لا يفرق بين ضحايا غنية و أخرى فقيرة كما تفعل السياسة ، لكن غير العادي أن مواطنا من لاتفيا أرسل تعزية لأهل الفقيد تقطع القلب ..
ولو لم تكن رسالة التضامن من لاتفيا لمرت على مائدتي مرور الكرام أو اللئام على حسب تخميناتكم، فما بين روسيا و لاتفيا أكثر بكثير مما صنعه الحداد ، و البركة طبعا في السياسة ..

ففي تصفيات كأس العالم 2010 وبعد 14 عاما من سقوط الاتحاد السوفيتي المدوي بفضل بيروستريكا الرفيق ميخائيل غورباتشوف التقى منتخبا روسيا ولاتفيا في ريجا، وصفت المباراة بأنها مواجهة القرن بين الإخوة الأعداء ..
وقد بدأ مفعول السياسة مبكرا جدا ، فعندما بدأ عزف السلام الوطني الروسي ( وهو نفسه النشيد الوطني للاتحاد السوفييتي)، أظهر اللاتفيون يافطة طويلة عريضة كتب عليها ( موتين بوداك) وهي تحريف لجملة (بوتين موداك) و تعني (بوتين السافل) ..

انتقلت الأجواء العدائية إلى مشجعي روسيا ، كانوا يرتدون قمصانا مزينة بالأحرف c.c.c.p، وهي الحروف الأولى للاتحاد السوفييتي قبل أن يتحول فيما بعد إلى أثر بعد عين ، ومنهم من نفخ في رماد الحرب الأهلية البلشفية التي وضعت أوزارها بضم لاتفيا قسرا و إلحاقها بالحكم السوفييتي لستين عاما ..
بالطبع ليس هناك مواطن واحد من لاتفيا لا يشعر بالمرارة و من معاناة بلادهم تحت قبضة حكم شمولي دموي، فما دام السياسيون ينفخون في كير مخلفات الماضي بمناسبة وبدون مناسبة ، فلن تنجح الرياضة في ترويض الفرقاء ما لم تكن هناك ضائقة عالمية تهدد بفناء الجميع ..

في تقديري أن مباراة بين لاتفيا وروسيا في زمن كورونا لن تلهب مشاعر الثأر في قلوب السياسيين، ولن تقحم الجماهير في حرب إهانة الطرق الآخر، فكرة ما بعد كورونا ليست تماما مثلما كانت قبل ظهور كورونا، وهذا درس يمكن استخلاصه كرويا في زمن الهروب من كورونا نحو الأبواب و النوافذ المغلقة ..
ولن ينسى العراقيون مشاعر العالم التي توحدت في مصابهم الجلل، برحيل النجم الدولي الكبير أحمد راضي متأثرا بفيروس كورونا اللعين، نعى العالم أحمد راضي بدموع الأسف، ولم تكن هناك من بين برقيات العزاء السياسية من تحمل ذرة نفاق أو حفنة من دموع التماسيح ..

شبح الماضي و أمل الحاضر ..

لطالما كانت السياسة حاضرة بقوة في المشهد الرياضي ، ولطالما استخدم السياسيون طرقا ملتوية لإخضاع الرياضة لأهوائهم و الترويج لمصالحهم و سياساتهم، وفي سبيل هذا التضاد مع مبادئ الرياضة عامة وكرة القدم خاصة تحولت الملاعب في أيام سادت ثم بادت إلى أبواق للدعاية السياسية، و الترويج لأنظمة القمع ، وهو تدخل سافر أفسد ود القضية الرياضية كنشاط إنساني في المقام الأول ..

ولا شك أن مونديال عام 1934 كان الأسوأ، لأن القيم الرياضية و هوية مجتمعاتها تورات خجلا وكسوفا في ملاعب حولها نظام الفاشيست بنيتو موسوليني إلى مستنقع سياسي آسن غرقت فيه كرة القدم ..
كان موسوليني يرى في كرة القدم دافعا سياسيا نحو إعلاء شأن إيطاليا الفاشية، ولو اضطره ذلك إلى فرض قوته في ملاعب الكرة بقانون القوة وليس قوة القانون ..

نهائي كأس العالم عام 1934

لقد تلقى لاعبو إيطاليا رسالة تهديد مرعبة عشية المباراة النهائية بين إيطاليا و المجر في نهائي مونديال فرنسا الثالث عام 1938، حوت رسالته جملة واحدة ركبت حروفها من دم :
” عودوا بالكأس ، أو تعود جثثكم بدلا عنه ..”

لا أحد ينسى الوساخة السياسية التي غلفت نهائيات كأس العالم في الأرجنتين عام 1978، وكيف كانت المباريات تقام على جثث ضحايا نظام العسكر بقيادة جورج فيديلا ، و بالطبع لا يأتي ذكر ذلك المونديال القذر سياسيا دون الإشارة إلى أن الهولندي الطائر يوهان كرويف رفض السفر إلى الأرجنتين على خلفية تلقيه تهديدات حملها على محمل الجد ، فقرر طلاق المباريات الدولية إلى الأبد..

وحتى لا نتجنى كثيرا على موسوليني و هتلر و فيديلا، يجب الاعتراف أن كرة القدم فقدت هويتها كنشاط إنساني يحقق العدل و المساواة بين الأغنياء والفقراء ، فقد دخلت بيت الطاعة (أي بيت السياسة) فغدت نشاطا تجاريا مشبوها تتحكم في بوصلة نشاطه شركات عملاقة تدار بلسان السياسة وليس بقدم الرياضة ..

كرة القدم كرياضة مجتمعات و كنشاط إنساني في الأصل متاح أمام كل الطبقات لا تلتقي و لا تتقاطع مع السياسة ، لكنها للأسف تتأثر برياح و أعاصير و سلوك أهل السياسة الذين إذا دخلوا الملاعب أفسدوها و جعلوا أعزة أهلها أذلة ..
ولعل أخطر ما تعرضت له كرة القدم تحديدا قبل جائحة كورونا، هو تلقيح السياسة بالرياضة ولو بالتأثير المباشر و غير المباشر لأنها أصبحت مرتعا للكسب غير الحلال ، وأعني أن مكاتب المراهنات و التلاعب بمباريات كرة القدم وشراء الذمم في مزاد التلاعب أزدهرت، في ظل محاولات تدجين كرة القدم لتصبح لعبة سياسية في المقام الأول، وليس نشاطا مجتمعيا يحقق العدالة ..

راهن السياسيون كثيرا على نقل معاركهم الحربية من ميادين الحروب و ساحات الوغى و الكروب إلى ملاعب كرة القدم ، لكن تلك الرهانات سقطت مرات كثيرة أمام مبادئ كرة القدم و سلوكها الحضاري الراقي ..
مثلا .. فشلت السياسة عام 1989 في إشعال حرب كروية بين العراق و إيران في بطولة الصداقة والسلام بدولة الكويت، التقى المنتخبان كرويا بعد ثمان سنوات من حرب طاحنة وقودها الناس و الحجارة أهلكت الحرث و النسل، و حبس العالم أنفاسه قبل أيام من المواجهة ، خصوصا و أن أطرافا سياسية تنتمي لتجار الحروب راهنوا على معركة القرن في الملاعب الكويتية ..

فرك أكثر من مليار مشاهد أعينهم في دهشة عندما تبادل اللاعبون القبلات و الورود في مشهد سلام ضرب السياسة في مقتل، ثم كانت المفاجأة أن المباراة كانت نظيفة خلقا و أخلاقا و سلوكا ..
بالطبع صفق ما يزيد عن المليار مشاهد عبر قارات العالم لكرة القدم التي طبعت العلاقات الإنسانية بين العراقيين و الإيرانيين ، فيما راح السياسيون يقضمون أظافرهم وهم يصبون المزيد من الزيت على النار المشتعلة ..

وفي تصفيات كأس العالم في الدوحة عام 1993 التقت الكوريتان الجنوبية و الشمالية في ظل سياسة متوترة بين البلدين تخيم عليها أجواء حرب بين الجارتين ، وتوقع أهل السياسة أن تنطلق شرارة الحرب بين دولة تمتلك ترسانة نووية أزعجت كثيرا (العم سام)، ودولة أخرى كورية سلاحها الصناعة و البورصات المالية، مرة أخرى خاب رجاء السياسيين ، فقد بدأت المباراة بالأحضان و دموع فرح فرت من العيون الضيقة ، و انتهت بنفس المشاعر الفياضة ..

أتذكر أن الرئيس الأمريكي بيل كلينتون تابع مباريات المنتخب العراقي بالذات من البيت الأبيض، كان كلينتون متخوفا من بلوغ العراق نهائيات كأس العالم 1994 في أمريكا ، في وقت كان الرئيس العراقي صدام حسين تملأ خطبه السياسية الملتهبة وكالات الأنباء بمختلف ألوانها و أشكالها..

اتخذ صدام حسين من كرة القدم منصة لتحدي كلينتون في عقر داره ، وقبل انطلاق التصفيات بساعات طيرت وكالات الأنباء تحديا رياضيا تفوح منه رائحة السياسة القبيحة :
” على الأمريكان الاستعداد منذ الآن لاستقبالنا رسميا في عقر دارهم، و على كيلنتون أن يفرش لي السجادة الحمراء.”
كان صدام حسين قد شحن لاعبي منتخب بلاده إلى الدرجة القصوى ، وكان منطقه السياسي لا يختلف كثيرا عن منطق موسيليني ..
” الخسارة في الدوحة ممنوعة ، فأنتم أملنا في هزيمة الأمريكان والرد العملي على عاصفة الصحراء في عقر دارهم ..”
التقط صدام حسين نفسا عميقا وهو يلوك سيجارته بين أسنانه بوحشية لا مثيل لها و يتحسس المسدس الذي لا يفارق بدلته الميري، مضيفا في حزم :
” إما أن تعودوا من هناك مكللين بالغار ، أو تجلبوا العار للشعب العراقي ، ليس أمامكم سوى القتال حتى آخر نفس لتطأ أقدامنا أرض عدو الأمة الأول ..”

كان منطق صدام حسين لا يختلف كثيرا عن منطق مدرب منتخب هولندا العظيم رينوس ميتشلز مخترع الكرة الحديثة، فبعد إقصاء هولندا لمنتخب ألمانيا الغربية في نصف نهائي بطولة الأمم الأوروبية الثامنة عام 1988 بمدينة شتوتغارت هتف ميتشلز بنشوة النصر: “الكرة تعني الحرب ..”

بالطبع كان ميتشلز يرى أن فوز هولندا في عقر دار الألمان الرد المناسب على نظام هتلر الذي نكل بالهولنديين عند احتلال بلاد الأرض المنخفضة مع بداية الحرب العالمية الثانية ..
المهم أن العراقيين خسروا أول مباراة أمام كوريا الشمالية بطريقة تراجيدية ، ولم يشفع لصدام حسين إقالة المدرب الشاب في ذلك الوقت عدنان رجال، ثم الاستعانة بتعويذة المدرب الشهير عمو بابا، المدرب الذي كان يضع حصاة بين كفيه طوال مسيرة تدريبية استمرت نصف قرن .. وتنفس بيل كيلنتون الصعداء في بيته الأبيض، وكان كمن تخلص من كابوس جثم على صدره لأسبوعين كاملين، هما فترة التصفيات النهائية التي انتهت بما تشتهيه سفن السياسيين الأمريكان ..

الأمر ينطبق على مباراة الغريمين السياسيين إيران و الولايات المتحدة الأمريكية، ففي نهائيات كأس العالم بفرنسا عام 1998 التقى الجمعان في مباراة ليست لوقعتها كاذبة ، وظن السياسيون أن البلاء سيحل بالأراضي الفرنسية جراء هذه المباراة المونديالية ذات الطابع السياسي، لكن المباراة دارت في أجواء هادئة على عكس السخونة التي تميزت بها على صفحات الجرائد و المجلات و التلفزة الأرضية و الفضائية، وكانت المرة الأولى و الأخيرة التي يصافح فيها إيراني أمريكي ، انتهت المباراة بفوز إيران بهدفين لهدف ، وتقبل الخاسر الخسارة بروح رياضية ، فيما تعامل لاعبو إيران مع الفوز التاريخي دون صخب داخل الملعب ، على عكس ما حدث في البلدين تماما ، ففي إيران تحول الفوز على الشيطان الأعظم (كما يطلق السياسيون الإيرانيون على الأمريكيين) إلى ثورة فرح لم تعرفها البلاد منذ تثبيت نظام (الخميني) ، فيما راح السياسيون الأمريكيون يجترون المرارة ، فقد وصفتها صحيفة الواشنطن بوست على أنها إهانة القرن ..

لاشك أن هذه المشاعر العدائية تلقي بظلالها على لعبة كرة القدم كلعبة شعبية لا تخضع لضريبة سياسية عند ممارستها ، وعلى ما يبدو أن هذه المشاعر بعد جائحة كورونا ستخفت و تقل في ظل التآزر للقضاء على هذا الوباء الخطير ..
ومع هذا يمكن لأسرة كرة القدم توجيه الامتنان لوباء كورونا ، ليس لأنه جعل كرة القدم هي بهجة الشعوب في منازلها ، و لا لأنه ذل السياسيين و مرغ أنوفهم في الوحل فحسب، ولكن لأن الوباء أعاد لكرة القدم بعدها الاجتماعي كنشاط إنساني قادر على معالجة الآثار النفسية التي خلفها هذا الوباء في مختلف قارات العالم ..

ربما كان الفرنسي ميشيل بلاتيني رئيس الاتحاد الأوروبي المخلوع بقضايا فساد ، كان أول رئيس اتحاد أوروبي يبحث عن الوجه الحقيقي لكرة القدم ..
” إن الهوس بكرة القدم هو جزء من الحياة اليومية بالنسبة لعشرات الملايين من الأوروبيين، سواء كانوا لاعبين داخل أرض الملعب أو مشاهدين في المدرجات أو عبر شاشات التلفزيون من منازلهم ..”

ظل حلم بلاتيني الكبير أن تدخل كرة القدم كل بيت في أوروبا ، لأنه يرى كرة القدم لعبة إنسانية قادرة على تكريس القيم و المبادئ و ترسيخ هوية الانتماء للعبة اجتماعية لا تفرق بين غني و فقير ..
“إن القيم التي تدعو إليها كرة القدم قوة فاعلة للاندماج الاجتماعي و التثقيف المدني ، و تشمل هذه القيم مبادئ التضامن المثالي للانفتاح ولا تقتصر هذه القيم على كرة القدم الأوروبية بل هي قيم المجتمع الأوروبي ..”

كرة القدم.. اللقاح المتاح في مواجهة كورونا ..


أتابع باهتمام الآثار الجانبية التي خلفها فيروس كورونا على مستقبل و حاضر كرة القدم ، ورغم بشاعة الوباء و خطورته أيضا إلا أنه عزز مكانة كرة القدم كسلوك مجتمعي دفعنا إلى مراجعة خطورة تسييس الرياضة أو افراغها من محتواها ومن غموضها ، و طالما كانت كرة القدم لعبة بشر فان الخطأ فيها وراد، و طالما كانت هناك أخطاء – غير مقصودة بالطبع – فهذا يعني المزيد من الجدل و الإثارة و صعوبة التكهن بالنتائج ، هكذا يقول بلاتيني ..

لكن السياسيين يريدونها لعبة تطبيع مع كورونا لتحريك مياه الاقتصاد الراكدة، و يريدونها مجرد نشاطا تجاريا بحتا ينتصر لمبدأ قانون ميكيافيلي سيء الصيت (الغاية تبرر الوسيلة)، وفق ضوابط سياسة (ادفع لتشاهد) ..
وعجبي على السياسيين الذين صاموا طوال أزمة كورونا عن الكلام المباح وغير المباح ، ثم يعودون للتوجيه من جديد على حسب أهوائهم ، فكرة القدم بالنسبة لهم طقس سياسي يحقق المصالح و المطامع، وعند أول بادرة شك يخرجون عن المألوف و يتذمرون من اللعبة ..

الرئيس الفرنسي السابق ساركوزي غضب و ثار وكاد يحرق الأخضر و اليابس عندما استقبلت الجماهير التونسية نشيد (لامارسيز) بصفارات الاستهجان في مباراة ودية عام 2009 في باريس، وطالب الفيفا بإلغاء السلام الوطني قبل كل مباراة حفاظا على كبرياء الديك الفرنسي ..
لا شك أن السياسة كتوجه و كسلوك أمم خاضت مباريات تكسير عظام في ملاعب الحروب الدامية، حركت شيئا في النفوس المحتقنة سياسيا جعلت الغاضبين و المهمشين و المناوئين لسياسة الفصل العنصري يشعرون بالغبن و يجأرون بالشكوى، فلا يجدون سوى مدرجات ملاعب كرة القدم ينفثون فيها عقد الماضي، للتخلص من كل هذا الكبت المحتقن بفعل حماقة السياسيين ..

أتذكر أن الرفيق ميخائيل غورباتشوف قال لرئيسة وزراء بريطانيا المرأة الحديدية مارجريت تاتشر، وهو يجرع الفودكا الروسية صباحا على معدة خاوية في حديقة مكسيم جوركي :
“لا بأس لن يسقط الاتحاد السوفييتي جراء بيروستريكا الإصلاح، سترون وحدة و تلاحم الاتحاد السوفييتي كنظام في مونديال إيطاليا 1990 ..”
وعندما انهى جملته بابتسامة عريضة ولدت من رحم وجه أحمر محتقن، أدركت تاتشر أن الاتحاد السوفييتي سقط إلى الأبد ..

وكلام غورباتشوف يقودنا إلى نظرة السياسيين لكرة القدم قبل وباء كورونا ، لقد كان لكرة القدم تفسير مميز عند السياسيين بصفتها عنصرا ثقافيا و شكلا من أشكال الوعي الاجتماعي، فقد استخدمت كوسيلة من أجل إعادة بناء الحس القومي و خلق رياضة (الصفوة)، أيقنوا أنه لا وطن واحد دون ثقافة واحدة حيث اعتبرت كرة القدم بكل زخمها و شعبيتها جزءا قوميا لهذه الثقافة المهجنة، والتي كانت للأسف الشديد خاضعة لأيديولوجية سياسية عنصرية قبيحة ، وهذا ما تقوله و تؤكده دراسات علم الاجتماع على حد زعم كبار أساتذتها ..

ربما غيرت جائحة كورونا وجه العالم تماما، ففي ظل العزلة و ما تلاها من إرشادات و قواعد صارمة أدرك أهل السياسة أن الموت على بعد قيد أنملة من الجميع ، و أن لا مفر من مواجهة هذا الوباء الغامض و القاتل سوى إفشاء السلام و التراحم بين الحضارات، وهو عمل معقد و شائك لا تستطيع سبر أغواره سوى كرة القدم، كنشاط إنساني يخلق الترابط و التلاحم في أشد الأزمات ضراوة ..

بعض من ينظرون للنصف الفارغ من الأزمة التي تعصف بوحدة العالم و تهدده بالفناء، راح يجتر الاستنتاج الخاطئ الذي توصل إليه المفكر الأمريكي فوكوياما، المفكر الذي تنبأ بنهاية التاريخ مع انتهاء الحرب الباردة بين قطبي السياسة الولايات المتحدة الأمريكية و الاتحاد السوفييتي ، ولأن فوكوياما يختزل التاريخ في وقائع صراع الأمم سياسيا و تنازع الحكام، تجاهل بهذا الانتقاء الرياضة عامة وكرة القدم خاصة كلعبة مجتمعات تكتب صراعا تاريخيا جديدا بلغة القدم و ليس بآليات الفناء و أسلحة الدمار الشامل ..

المؤكد أن الأزمة التي استحكمت حلقاتها بفضل استوطان كورونا لقارات العالم، فرضت على السياسة التراجع تدريجيا عن تدجينها كورقة ضغط عنصرية أو كسلوك فصل عنصري لتتيح الفرصة أمام كرة القدم للتطبيع بين حضارات قارات العالم، فقد مارست كرة القدم صلاحياتها كأداة للتغيير الاجتماعي، و كإطار لتشكيل التغييرات السلوكية و الأخلاقية في بنية المجتمعات، وفي تغيير الأوضاع الاقتصادية و السياسية و القانونية ..
من الواضح أن جائحة كورونا جعلت الاتصال العاطفي المباشر بين الأعراق يقود في أغلب الأحوال إلى تغيير مقبول في المواقف بين السود و البيض، هذا الاتصال الذي كان قبل جائحة كورونا سطحيا جدا فشل في تحطيم المواقف العنصرية بين أبناء اللعبة الواحدة..

اتفق مع من يقول : إن الناس لا يتخلون عن مواقفهم بسهولة في ظل ما زرعته السياسة من تمييز عنصري هدام، يحصل هذا بشكل خاص مع المواقف المتاحة للحكم على خصائص و سلوكيات جماعات عرقية مختلفة ، لكن هذا القول في ظل الجائحة خلقت اتصالا عاطفيا بين الجماعات قد لا يؤدي بالضرورة إلى تغيير شامل او تناقص في التعصب كسلوك عدواني ، لكنه بالفعل يشير حسب بحوث أكاديمية إلى أن تغييرا واضحا طرأ على سلوك اللاعبين و معهم الجمهور من خلف الأبواب المغلقة، و هذا كفيل أن يزرع في قلوبنا رجاء أن يتقلص عدد الحمقى و المغفلين الذين ينفخون في كير التعصب و العنصرية دون اكتراث لمشاعر البشرية كسلوك مجتمعي، ففي زمن كورونا أصبح الموت مصيرا حتميا لا يعترف بنعصرية ولا بسلوك سياسي في ملاعب كرة القدم..

خلاصة الخلاصة .. وباء كورونا منح العالم فرصة ذهبية لإرساء ثوابت وقيم الرياضة ككل، وبعث إلى كل بيت سياسي رسالة تقول : تحابوا و اتحدوا و انبذوا التعصب السياسي الأعمى، و دعوا كرة القدم تؤدي دورها كنشاط إنساني يؤلف بين القلوب، فهذا هو اللقاح الفعال الذي يجعل العالم ينتصر في أهم مباراة مفتوحة يخوضها ضد خصم غامض وخطير يستعصى مواجهته فرديا!

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى