وين (العسل) يا نوب ..؟!

كتب- محمد العولقي

هذا الأفق المخضب بشفق الوداع ينعي ظلالا قاتمة، ما فتئت تنتحر تحت غيمة بكاء امتزجت بنحيب القمر، هناك في الأفق الدامي تبكي ألوان قوس قزح (أخضرها) الذي توارى وابتلعته زمجرة السحب الغاضبة، في لحظة تزاوج بين برجي الجدي والسرطان ..

السماء تبكي لونها الأخضر، والأرض تنعي بساطها السندسي، مات (عسل) الأرض وخالدها، توقف نبض خلاياه فجأة، فتعطلت مصانع الملكات والشغالات عن إنتاج (عسلها) الذي يحمل ختم يعسوبها (خالد) ..

أشتهي أقراص (خالد) المحلاة بشمعها وألوانها، منذ أن حل هذا (الدباس) ضيفا على مملكة نحل (وحدة عدن)، وخلايا (خالد) تطرح لنا أصنافا من عسل صاف مصفى فيه لذة للشاربين أمثالي ..

و(اليعسوب) الأخضر كان نحلة أرستقراطية، يجمع رحيقه من أزهار وورود الملاعب، كان يعسوبا يأمر الملكات فيضعن حملهن دون نقاش عسلا بنكهة (عدنية)، جاء (خالد العسل) إلى ملاعبنا برحيق خاص و(دباسة) خاصة، كان يطرح عسله في زوايا المرمى بكل مباراة، المرمى خلية نحله التي تأوي مملكته، وكلما صفق له جمهور الوحدة، زاد كرمه وأسقانا من خلية نحله شرابا مستساغا ..

(خالد) من مواليد منطقة الجزاء، ولد وفي فمه ملعقة عسل، كانت هوايته الأولى تلقيح شباك المرمى، لم يكن يعسوبا عاديا يلقي حتفه مع أول عملية تلقيح، كان كلما هز الشباك فاح رحيقه المختوم، كان يحوم فوق ملاعبنا كالفراشة، ويلسع المرمى كالنحلة، الأهداف هوايته، يسجل من أنصاف الفرص، ويسجل من زوايا مستحيلة، لكن (يعسوب) وحدة عدن كان يختار المواعيد الكبرى ليتألق، وكان كلما لاقى التلال، طرح عسله ذكرى في المرمى الأحمر ..

جاء (خالد العسل) إلى الملاعب محمولا على أجراس العاصفة، كانت موضة رأس الحربة تكاد تنقرض، وكانت موجة اللعب الحديثة لا تتطلب مهاجما كلاسيكيا ينام في منطقة الجزاء..(خالد) رفض التعامل مع هذا المصطلح، رفض دور المهاجم المزور، تحدى كل لاعبي رؤوس الحربة في زمن كان فيه المهاجمون على قفا من يشيل، اختار (خالد) رحيق الأخضر، كان على وشك أن يكون بطلا أو صفرا ..

كانت بداية (خالد) صعبة في مملكة الوحدة الخضراء، مجرد (يعسوب) مهمته سد ثغرة في خلايا الشغالات والعاملات الساهرات على راحة الملكات، لكن ملكات خلية نحل الوحدة الهجومية التي تطرح العسل شاخت، فضل الأوبلي مصاب إصابة مزمنة بالركبة، وسعيد عبدالكريم فقد مزاجه، ومنيف شائف لازال عينا لفنار الميناء، لم يكن هناك سوى اليعسوب الصغير (خالد) ..

طوى (خالد) المسافات سريعا، وراح يتوغل في مملكة النحل، ويعيد بناء الخلية من الداخل، تعلق متذوقو المتعة بعسله من أول دفقة شلال، كان جمهور الوحدة قد أطلق عليه (بابان) وحدة عدن، نسبة إلى الهداف الفرنسي الشهير (جان بيير بابان) .. حتى عندما تلوثت أجواء الوحدة، ولم تعد سماؤه صالحة للطيران، بقي (خالد) مخلصا ووفيا لمملكته الخضراء، بقي في الظل يصنع العسل، ولا يستسلم لإغراءات الملكات بالتقاعد، خرج من خليته بأمر دبر بليل، لكنه لم يشأ أن يتحول إلى حاطب ليل، يحتسي المانشتات على صدر الصحف كما يفعل الناعقون ..

أخيرا غرته أضواء الملكات، حام حولها في حنان، كان يلبي نداء الخدمة، فاليعسوب لا يتأخر عن تلبية النداء ولو كان في ذلك هلاكه، مات (خالد) في ليلة ليلاء بين ظلال مملكته ورحيق خليته، مات فلم يبق للنوب (يعسوب) يحفز الدباس على الدباسة، مات (خالد) وقد أفاضت قطرة عسله الأخيرة كأس الوداع، مات (خالد العسل) فجفت حقول الخلايا، لقد رحل (اليعسوب) بعد إتمام مهمته الأخيرة، لكننا أبدا لن ننسى رحيقه المختوم، ولا عسله المدبوس، ولا نكهة ذلك الشراب المستساغ الذي فيه لذة للشاربين ..!

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى