كيف أصبح الطليان يجهلون فك طلاسم الكتناشيو ..؟

رؤية كتبها / محمد العولقي

مهنة التدريب مهنة معقدة شائكة وصعبة، كرسي المدرب دائما مفخخ بالكثير من المتربصين الذين يسنون سكاكينهم في انتظار أول سقوط في ميدان الحذق التدريبي ..

لم يكن المدرب الإيطالي ( فيتشيني) مخطئا عندما قال : مدرب كرة القدم عبارة عن شحنة أعصاب قابلة للانفجار كل ثانية ..

وعلى ذكر المدربين (الطليان) يقف طابور طويل من المدربين المخلصين لجمركة الشاكلة الكئيبة المرعبة التي تم اختزالها في قالب تكتيكي قاتم لا فكاك منه ..

يظل المدربون (الطليان) قديمهم وحديثهم تلاميذ أوفياء لمدرسة (هيلينيو هيريرا)، تلك المدرسة التي أثارت الرعب في كل العالم، بتفاصيلها العميقة وجزئياتها الصغيرة، وانتهاء بأدوات التنفيذ التي تتحرك وفقا وقواعد أسمنتة لا تعترف بالفرديات الاستعراضية ..

المفارقة أن المدرب العالمي الذي اخترع طريقة (الكتناشيو) التي أصبحت سمة إيطالية بحتة، ويتعاطاها الطليان شأنها شأن البيتزا، ليس مدربا إيطاليا ولا حتى أوروبيا، لم يكن (هيلينيو هيريرا) سوى مواطنا أرجنتينا، لم تعجبه رقصة (التانغو) الاحتفالية، فقرر الخروج عن المألوف على قاعدة (خالف تعرف) ..

الكتناشيو على أشكالها تقع

دعونا الآن من (هيريرا) الذي علم (الطليان) كيف يتحول نظام اللعب إلى كتلة واحدة تقتل اللعب لأوقات ثم تحييه بمرتد خاطف، فتنتهي حدوتة المباراة ..

دعونا نبقى عند قناعة المدربين (الطليان) أنفسهم، فهم مثل الطيور على أشكالها تقع، وكأنهم شربوا أفكار ومعطيات (الكتناشيو)، حتى بات الخروج عن قواعد ذلك النظام الصارم جريمة في حق مدرسة (هيريرا) ..

يمكنكم حصر المدربين (الطليان)، بداية من حقبة ستينيات القرن الماضي مع ظهور (كاتناشيو) المدرب المقيم (هيريرا) مع إنتر ميلان، ونهاية بالعقد الأول من الألفية الثالثة، ستكتشفون أنكم أمام مصفوفة مدربين يلعبون بنفس النهج ونفس العقلية، دفاع خانق، محاصرة الإطار السحري، جمركة في الوسط والدفاع، ثم ضرب الخصم بهجمة مرتدة تنهي النقاش ..

الطليان وهم أساتذة (الكاتناشيو) يقولون : الغاية تبرر الوسيلة، يرون أن (هيريرا) نقل وصية (ميكيافيللي) من السياسة إلى الرياضة، فأثبت عمليا أن ثمة تزاوج فكري يمكن أن يحدث بين الرياضة والسياسة، بين الغاية والوسيلة ..

يقول المدرب الإيطالي (جيوفاني تراباتوني) : ليس هناك قانون في كرة القدم يلزمنا أن نلعب بشاعرية خصبة، طالما كرة القدم فوز وخسارة، فلنا الحق أن نفكر في تجنب الهزيمة قبل التفكير في وسيلة الفوز ..

سجل أول اذهب إلى الجحيم ..

عندما انتقل صانع ألعاب منتخب فرنسا الشهير (ميشيل بلاتيني) من نادي (سانت إتيان) الفرنسي إلى نادي (يوفنتوس)الإيطالي، كاد يغمى عليه عندما تم تكبيل قدراته ومهاراته، فعاش ستة شهور عصيبة للغاية مع السيدة العجوز ..

وعندما حار مدرب يوفنتوس (جيوفاني تراباتوني) في أمره، قرر استشارة مدرب منتخب فرنسا في ذلك الوقت (ميشيل هيدالغو)، كان سؤال مدرب اليوفي واضحا : كيف نستخرج من (بلاتيني) كل عبقريته في التسجيل وصناعة اللعب كما يفعل مع المنتخب الفرنسي ؟
كان (تراباتوني) يتوقع من (هيدالغو) محاضرة طويلة عن الجانب النفسي والتكيف مع الأجواء، لكن (هيدالغو) أجابه في جملة واحدة لا غير :
دعوا (ميشيل) يلعب كما يرغب، لا كما ترغبون ..

حمل (تراباتوني) نصيحة (هيدالغو) على محمل الجد، والحقيقة أن (تراباتوني) كان متخوفا من مغبة الخروج عن قواعد (الكتناشيو)، لكنه سرعان ما جعل من (بلاتيني) الاستثناء بعد أن انهمرت أهدافه وتنوعت عبقريته في التمهيد للأهداف وصناعتها ..

يقول (بلاتيني): نظام اللعب في إيطاليا قاس جدا، الدفاع هناك هو السائد، أتذكر حينها أنني كنت أجر المهاجم البولندي (بونياك) من قميصه ليهاجم كما أرغب ..

يضيف (بلاتيني) قائلا : في عام 1984 سجلت عشرين هدفا في (الكالشيو)، كان يومها حدثا إعجازيا للصحافة الإيطالية، لأن الرقم بالنسبة لهم كان كبيرا، لقد سألني التلفزيون الإيطالي : كيف لك أن تسجل هذا الرقم وأنت تلعب أمام أسياد الدفاع في العالم ..؟

ربما أبدت الكرة الإيطالية حاليا قليلا من المرونة، وهي نسبة تشجع إلى حد ما على التمرد وعدم الانصياع لقانون (الكاتناشيو)، لكن تبقى ثمانينيات وتسعينيات القرن الماضي شاقة على كل مهاجم احترف في الدوري الإيطالي ..

كان (باولو روسي) في عيون الصحافة الإيطالية هو أخطر مهاجم في العالم، لأنه يبيض كل موسم بين عشرة إلى 15 هدفا، لذا كان ذلك النحيل بطلا للمنتخب الإيطالي في مونديالي 1978 الأرجنتين و 1982 بإسبانيا ..

هنا المهاجم الإيطالي الشهير (أليساندرو ألتوبيللي) يسجل شهادة للتاريخ : في الدوري الإيطالي عليك أن تفعل شيئا استثنائيا وإلا عليك الذهاب إلى الجحيم ..

يمضي (ألتوبيللي) في شهادته : المهاجم الذي يأتي ليلعب في الدوري الإيطالي فدائي بامتياز، عليه أولا أن يدافع ضمن منظومة انضباطية الخطأ فيها ممنوع، ثم عليه أن يأتي بالحل من هجمة أو هجمتين ..

كنت دائما أسال نفسي، كيف يسجل (بلاتيني) دائما ثم يستحوذ على لقب الهداف لثلاثة مواسم متتالية مع أنه لاعب وسط وليس مهاجما ..؟

السؤال يجيب عنه (بلاتيني) : ليس في الأمر سر كما يعتقد (ألتوبيللي)، ربما لو كنت مهاجما بمفهوم رأس الحربة لمنعني المدافعون من التسجيل أو التنفس بحرية، إنهم في الغالب يشكلون كماشة على المهاجمين، لكن الأمر يختلف للقادم من الخلف، تبدو مفاجأة ليست في حسبان المدربين الذين يلقنون اللاعبين الطريقة الدفاعية ..

القادمون من الخلف يصنعون الفارق ..

يرى المهمومون بطرق اللعب أن نقطة قوة تكتيك طريقة (الكتناشيو) تتأسس على مبدأ الدفاع الكلي للمنطقة، مع محاصرة الوسط بجلادين اثنين في الارتكاز مهمتهما استرجاع الكرة من الخصم وهدم كل البناءات الهجومية ..

يتشكل الوسط في العمق من ثلاثة لاعبين ينفتحون على شكل (مروحة)، وظيفتهم الهدم وترك البناء لمن هو قادر على الخلق والابتكار ..

عندما أحرزت إيطاليا كأس العالم في إسبانيا عام 1982،  كان المتابعون منبهرين بقدرات الحارس الكهل (دينو زوف)، وبقدرات المدافع الجزار (كلاوديو جنتيللي)، والحس التهديفي المرتفع عند الهداف (باولو روسي)، لكن ما كان للبناء التكتيكي أن يلتزم بتعاليم (الكتناشيو) ويتقمصه كما رسمه (هيريرا) لولا الواجبات الدفاعية الكبيرة التي كان يؤديها نجم فيورنتينا في ذلك الوقت ( جان كارلو أنتونيوني) ..

يدين مدرب المنتخب (إنزو  بيرزوت) بالكثير للاعب الارتكاز (أنتونيوني)، لقد كان بمثابة حجر الأساس التي بنى عليها المدرب كل متطلبات (الكتناشيو) ..

يقول العبقري (دييغو مارادونا) قائد (نابولي) من منتصف الثمانينيات وحتى نهايتها : في إيطاليا إذا أردت تفتيت حصانة (الكتناشيو) فنيا عليك أن تكون لاعب وسط يصعب مراقبته، هناك اللياقة الذهنية عند المدافعين هي التي تصنع الفارق مع المهاجمين، عندما تسجل مع (نابولي) 15 هدفا في الموسم الواحد فأنت بطل قومي بكل المقاييس ..

ثم يضيف مازحا : على المهاجم أن يكتب وصيته الأخيرة في البيت قبل أن يذهب ليلعب مباراة في الدوري الإيطالي، كنت أقول دائما لزميلي في نابولي المهاجم البرازيلي (كاريكا) : قف أمام المدافعين فقط، لا تفعل شيئا سوى المناوشة، ودع أمر المباغتة لي، كون القادم من الخلف يمثل إعصارا حقيقيا للمدافعين ..

رونالدو .. هل يخلص الدوري الإيطالي من خجله الهجومي ..؟

ترى هل لازالت الكرة الإيطالية تعتنق مبادئ (الكتناشيو) ..؟
هل لازال المدربون الطليان تحت رحمة طريقة لعب صارمة وجامدة تستوجب تنفيذ كل مقرراتها بحذافيرها ..؟
للإجابة على السؤالين السابقين يلزمنا التمعن والتدقيق في الصورة الحالية ..

يركز مدرب (يوفنتوس) البرازيلي (ماسليمانو أليجري) على مسألة في غاية الأهمية، وتتعلق بقانون اعتبار أي لاعب أوروبي لاعب محلي، كان الكم مناسبا لغسل أفكار الأندية الإيطالية وتخطي كل عقبات (الكتناشيو) المرهقة ..

في الثمانينيات كان الدوري الإيطالي بمثابة بطولة كأس عالم مصغرة، لأن أفضل لاعبي العالم هناك، لكن المشكلة التي واجهت النجوم في ذلك الوقت كانت تتعلق بالعدد المحدود من المحترفين، برز الكم الإيطالي في الأندية كعامل حاسم في تقديس (الكتناشيو)، ولقد ضاق النجوم ذرعا من ذلك النظام فحدثت الهجرة الجماعية إلى إسبانيا وإنجلترا وفرنسا وألمانيا ..

يعتقد بعض المتابعين أن استقدام البرتغالي (كرستيانو رونالدو) من ريال مدريد إلى يوفنتوس مسألة تسويقية أو تجارية، وهذا صحيح، لكن يمكننا فهم الصفقة على أنها انقلاب على نظام (الكتناشيو) ومحاولة جبارة لتخليص الدوري الإيطالي من خجله الهجومي، فلاعب يبيض كل موسم 45 هدفا لا يمكنك سجن مؤهلاته في نظام عقيم يؤمن بالدفاع الكلي على حساب الهجوم المحدود ..

نظرة خاطفة قد لا تغير من الواقع الإيطالي شيئا، فعقلية الطليان لنهجهم لم تتغير لكنها في الواقع تطورت قليلا عن ذي قبل ..

هذا التغيير المحدود لم يكن كافيا لتحريك مشاعر المغامرة عند الأرجنتيني (ليونيل ميسي)، ربما لأنه ليس بوسع أي نجم في العالم التضحية بدوري منفتح على الهجوم كالدوري الإسباني، والانتقال إلى الدوري الإيطالي الصعب والشاق إلا لو كان اسم هذا النجم المغامر (كريستيانو رونالدو) فقط ..

يقول الأرجنتيني (غونزالو هيجواين) عندما أحرز 30 هدفا في موسم واحد مع (نابولي) : لم أصدق ذلك، كانت النسبة بالنسبة لمارادونا صدمة، لقد سألني : كيف فعلت هذا ؟، كان ردي أن المدرب طلب التحريض الهجومي من الوسط، كانت مهمتي ترجمة ذلك التحريض ولقد فعلت، لكن ليس كل مدرب إيطالي هو (ساري) الشجاع، لذا لم يتكرر الحدث من جديد بعد أن تفطنت الفرق الإيطالية للخدعة ..

الخلاصة، الكرة الإيطالية فتحت أبوابها أمام مدربين من خارج إيطاليا للمساهمة في تغيير نسيج كرة القدم الإيطالية، لكن تظل المشكلة الصعبة في فكر اللاعب الإيطالي نفسه، إنه بحاجة إلى ثورة فكرية ليتيقن بعد ستين عاما أن (الكتناشيو) نظام بلغ قمة الإفلاس، والسؤال : متى ينتفض اللاعبون الطليان ضد (الكتناشيو) ..؟

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى