مارادونا وبيكنباور.. نهاية دامية للرقابة اللصيقة

 

تحليل: محمد العولقي

كرة القدم الحديثة تضاعفت سرعتها بصورة رهيبة، يقابلها تناسب عكسي حيث باتت مساحات اللعب ضيقة للغاية، التناسب العكسي بين سرعة الكرة والمساحات الضيقة دفع الرقابة اللصيقة (مان تو مان) إلى الانقراض، فبدت للعيان وكأنها عملة قديمة لم تعد تناسب موضة اليوم خططيا ..

هذه الحقيقة أول من استوعبها القيصر ( فرانس بيكنباور) مدرب منتخب ألمانيا الغربية في مونديال المكسيك عام 1986، ولم يكن (بيكنباور) ليصل إلى حقيقة أن الرقابة اللصيقة بادت لولا الدرس الذي تلقاه من (مارادونا) بالذات في المباراة النهائية على الملعب التحفة (أزتيكا) ..

في تلك المباراة يا سادة يا كرام، بنى (بيكنباور) طريقة لعبه على إبطال مفعول (مارادونا) ومراقبته كظله، ومع أن المعني الأول بمراقبة الزئبق الأرجنتيني كان لاعب الوسط (لوثار ماتيوس) الحمل الوديع لنادي (بايرن ميونيخ)، الذي كان وقتها في نفس سن (مارادونا) 26 عاما، إلا أن (بيكنباور) كان يعرف أن (مارادونا) قادر على تدمير كل الحس التكتيكي لمنتخبه، لهذا قيده مبدئيا بلاعب الوسط (ماتيوس)، وعند التجاوز يبرز المدافع (كارل هينز فورستر) كعامل تغطية، لمنع المارد الأرجنتيني من التنفس داخل منطقة الجزاء ..

بلغت الحيرة بالمدرب الألماني مبلغها، خصوصا وقد كان شاهد عيان على تألق النجم (مارادونا)، كان (بيكنباور) يؤمن تماما بأن (مارادونا) يزخر بموهبة فذة يستحيل معها التقييد أو الرقابة الفردية، فلكي توقف (مارادونا) عليك بتجهيز كتيبة انتحارية تعطل مؤهلات ذلك النجم الخارق ..

كان (مارادونا) يسخر من المدافعين ويجعل منهم مجموعة من السذج، إنه يندفع بقوة ثم يغير مساره فجأة فيختل توازن المدافعين، وتهتز الشباك من حيث لا يدرون ..

نهائي مونديال 1986

قبل يوم كامل من المباراة النهائية بين الأرجنتين وألمانيا الغربية، طلب (بيكنباور) ملخصا لمارادونا على ألا يتجاوز شريط الملخص عشر دقائق، كان هذا الطلب مفاجئا للإطار الفني الألماني، ففي وضع كهذا دأب كل مدربي العالم على طلب ملخص للفريق المنافس لمعرفة نقاط قوته ونقاط ضعفه، ثم فك لغز طريقة لعبه من كافة المحاور الفنية التكتيكية والذهنية، لكن ان تطلب مخلصا للاعب بعينه فهذا غريب ومريب ومثير للانتباه ..

كان (بيكنباور) يعلم أن قوة الأرجنتين كلها في (مارادونا)، فهو المدرب وهو نظام اللعب وهو قلب وعقل وجسد المنتخب الأرجنتيني، وهذا يقود بالضرورة إلى تكبيل (مارادونا) ومنعه من التنفس أمام المرمى، وكان هذا خطأ (بيكنباور) الفادح، لأنه حسم خطورة (مارادونا) أمام المرمى، كانت خطته تقتضي إبعاده عن منطقة جزاء الحارس الألماني (هارلد شوماخر) بأية طريقة، حتى لو جند كل رجال الوسط الدفاعي لسجن (مارادونا) وتعذيبه إن تطلب الأمر ذلك ..

غلطة كلب الحراسة ..

قبل ظهور (مارادونا) على مسرح الأحداث العالمية كانت الرقابة اللصيقة أو الحراسة الفردية، هي الحل السحري لهدم شاكلات الخصوم، لكي تبطل مهارة لاعب يجب أن تسجنه في قفص فردي طوال الوقت، كانت هذه الطريقة (الرقابة اللصيقة) قد بلغت القمة بفضل كلب الحراسة الألماني المدافع (بيرتي فوغتس) ..

في نهائي مونديال ألمانيا 1974 في ميونيخ بين منتخبي ألمانيا الغربية وهولندا، طلب مدرب منتخب ألمانيا الداهية (هلمت شون) من (بيرتي فوغتس) مراقبة صانع ألعاب منتخب هولندا الفتي الطائر (يوهان كرويف) كظله تماما، لم ينس (شون) أن يسدي النصيحة التالية لكلب الحراسة (فوغتس) :
” بيرتي .. عليك بيوهان، كن رباط حذائه، لو ذهب إلى المرحاض اذهب خلفه، لا تترك له برهة ليفكر، سيطر على فكره، وشل حركته ..”

لكن (فوغتس) لم يستوعب النصيحة إلا بعد ثمانين ثانية على بداية المباراة النهائية، فبعد أكثر من عشر تمريرات هولندية عرضية على حسب مقتضيات الكرة الشاملة، تسلم (كرويف) الكرة، ثم انساب بنعومة مذهلة بين مدافعي المانيا، فركض خلفه (فوغتس) قبل أن يطرحه أرضا، فكانت أسرع ركلة جزاء في تاريخ المباريات النهائية لبطولات كأس العالم حتى الآن، احتسبها الحكم الانحليزي (غراهام تايلور)، وبعد أن حول الركلة (يوهان نيسكنز) إلى هدف التقدم، صرخ مدرب ألمانيا الغربية (هلمت شون) في وجه (فوغتس) معاتبا : ” بيرتي .. لماذا منحت (يوهان) ثانية واحدة للتفكير، ألم أقل لك كن رباط حذائه ..؟”

قرر (فوغتس) أن يكون ظلا للفتى الطائر (كرويف)، اعتقله تماما وقطع عنه الماء والهواء والكهرباء، ولأن كمبيوتر الكرة الشاملة قد توقف عن النبض بفضل الفيروس (فوغتس)، فإن منتخب هولندا اختنق تموينيا، الأمر الذي جعل الألمان يحسمون المباراة في الشوط الأول بهدفي (بول برايتنر) من ركلة جزاء، والهداف الثعلب (غيرد موللر) ..

جنتيللي ..رقيب فوق العادة

عندما اتخذ (بيكنباور) قراره بضرورة وضع (مارادونا) تحت الإقامة الجبرية بصحبة (ماتيوس وفورستر)، كان في الواقع يبحث عن جلاد على طريقة الإيطالي ( كلاوديو جنتيللي) ..

فازت إيطاليا ببطولة كأس العالم الثانية عشرة في إسبانيا عام 1982، بعد أن تخطت أكثر من حاجز صعب، على غرار الأرجنتين والبرازيل وبولندا وألمانيا الغربية، نسب العالم تلك البطولة للحس التهديفي المرتفع عند (باولو روسي)، ثم لطريقة (الكتناشيو) التي سار عليها المدرب الأحدب (إنزو بيرزوت) ..

أخطأ الجميع في تلك الحسبة الدرامية، لأن البطل الحقيقي للطليان في ذلك المونديال كان مدافع يوفنتوس (كلاوديو جنتيللي)، ببساطة شديدة كان (جنتيللي) صاحب الفضل الأول في تتويج إيطاليا بلقبها الثالث، ﻷنه أوقف مارادونا المراهق وزيكو البارع ولاتو السريع وثم كارل هينز رومينيغه في النهائي ..

ارتكب (جنتيللي) عشرين مخالفة على (مارادونا)، وفي كل مرة كان يضع يديه خلف ظهره ويتصنع البراءة، ثم مزق قميص البرازيلي (زيكو) وفرض عليه أن يلعب شوطا كاملا بنصف قميص، بعدها غيب قمر بولندا (لاتو) وحرمه من الكرة نهائيا، وفي النهائي كانت سبعون دقيقة كاملة لتدمير كل مؤهلات الألماني (رومينيغه) ..

النهاية الدامية للرقابة اللصيقة

قلب (بيكنباور) الأمر في ذهنه ليومين كاملين، ثم اكتشف الحركة الانسيابية التي يمتاز بها (مارادونا)، كان (بيكنباور) يحاول أن يتفادى سذاجة الإنجليز والبلجيك معا، خصوصا وقد شاهد (مارادونا) وهو يحول الدفاعات الإنجليزية والبلجيكية إلى حدجات بلا رائحة ..

أمام إنجلترا في الدور ربع النهائي أسكن (مارادونا) الكرة في رمانة قدمه اليسرى ثم قطع أكثر من خمسين مترا قبل أن يراوغ كل الدفاع الإنجليزي المترنح، بمن فيهم الحارس العتيق (بيتر شيلتون) محرزا أجمل أهداف بطولات كأس العالم على الإطلاق، ثم كرر نفس الرسم أمام بلجيكا في نصف النهائي، وسجل هدفا كرنفاليا في مرمى الحارس العملاق (جان ماري بفاف)، بعد أن مشى على مجموعة مسامير متجاوزا أربعة مدافعين بحركة مارادونية بارعة ..

مارادونا خلال مونديال 1986

توصل (بيكنباور) إلى قراره التالي : سأضع أمام (مارادونا) كل حاجز الوسط، سأمنعه من التنفس في منطقة الجزاء، على (ماتيوس) تقف مهمة عزل (مارادونا) تماما، وعند أي تجاوز هناك الذئب الأغبر (فورستر) قادر على إيقافه ..

نفذ (ماتيوس) تعليمات مدربه بالحرف الواحد، كان خط وسط ألمانيا المؤلف من برتولد وماتيوس وماغات متيقظا أمام المارد الأرجنتيني، نجح (بيكنباور) في تقديم نسخة مارادونية مصغرة في النهائي، لكنه في النهاية خسر كأس العالم بسبب مارادونا نفسه .. كيف ..؟

قبل نهاية المباراة بسبع دقائق، وفي وقت كانت اللوحة تشير إلى تعادل المنتخبين بهدفين لهدفين، سها (ماتيوس) لثانية واحدة أمام مارادونا وسمح له أن يدور حول نفسه ثم يبرق تمريرة حريرية نحو لاعب الوسط (بورتشاغا) الذي تفادى القرش الألماني (بريجل) بلمسة، انفرد وسجل في مرمى الحارس الألماني (هارلد شوماخر) أغلى الأهداف، ففازت الأرجنتين باللقب العالمي للمرة الثانية ..

بعد تلك الموقعة بساعات قليلة أعلن (بيكنباور) أن مارادونا غير مفاهيم كرة القدم الحديثة، وأن ما فعله مارادونا في ثانية دليل قاطع على أن الرقابة اللصيقة موضة قديمة أدخلها مارادونا متحف الآثار التاريخية إلى الأبد ..!

تعلم (بيكنباور) الكثير من هذا الدرس المارادوني، ولكي تسلم جرة الألمان من الكسر للمرة الثانية، لجأ بيكنباور بعد أربع سنوات إلى رقابة البناء الفني الأرحنتيني في نهائي مونديال إيطاليا عام 1990، ترك (ببكنباور) أمر الرقابة اللصيقة للمارد (مارادونا)، عوضا عن ذلك اهتم بطريقة لعب فريقه، وبتطويق كل البناء التكتيكي للمدرب الأرجنتيني (كارلوس بيلاردو)، لم ينشغل الألمان بمارادونا كثيرا، انتهت المباراة بفوز ألمانيا الغربية بهدف من ركلة جزاء خيالية سجلها (أندرياس بريمه)، عندها فقط تأكد (بيكنباور) أن الرقابة الفردية اللصيقة دفنت في (أزتيكا) إلى الأبد ..!

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى