فلامنجو- الهلال ..ثقافة الصبر وتحريك أسلحة الطوارئ ..!

تحليل- محمد العولقي

يحدث هذا قبل الموقعة الصاخبة بين فريقي الهلال السعودي وفلامنجو البرازيلي .. همس جمهور الفريق البرازيلي بأحلامهم للبحر .. تمنوا الفوز على الهلال .. تلك عادة دأب عليها محبو وعشاق فريق الأمة.. كما يحلو للبرازيليين تسمية فلامنجو ..

كل المتناقضات التي يمكن أن تحدث في كرة القدم، وبكل متغيراتها الفنية والتكتيكية والنفسية وفوارقها الثقافة.. تجسدت كلها في هذه المباراة.. التي كان ستاد حمد الأولمبي بالدوحة مسرحا لها.. في نصف نهائي كأس العالم للأندية..

جمهور المباراة، الهلال السعودي، فلامنجو البرازيلي، نصف نهائي كأس العالم للأندية، قطر 2019

لم يكن هناك محايدون .. الجميع ارتدوا ألوان الهلال وفلامنجو .. غنى جمهور الهلال على قلته مقارنة بأسراب الجراد البشري البرازيلي التي غزت الدوحة.. أغنية نعم نستطيع .. في نفس الوقت كان جمهور فلامنجو يصرخون على إيقاع السامبا نحن الأسياد..

انتهى اللقاء الدراماتيكي بفوز غير منصف لفريق فلامنجو بثلاثة أهداف مقابل هدف .. فوز صعب رغم وفرة أهدافه .. جاء محمولا فوق معاناة كبيرة.. جفت معها الدماء في عروق البرازيليين ..

غضب جمهور الهلال لهذه النتيجة العريضة .. شعروا أن فلامنجو سرق المباراة في رمشة عين.. بعد أن كان الهلال متفوقا حتى على نفسه في الشوط الأول .. غضب هلالي مؤقت .. فما أن استوعب جمهور الهلال تراكمات اللقاء الرائع حتى هدأت ثورة الغضب .. وراحوا يغنون لموجهم الأزرق هلال إلى الابد ..

وجهان هلاليان متناقضان

الهلال السعودي، فلامنجو البرازيلي، نصف نهائي كأس العالم للأندية، قطر 2019

لعب الهلال مباراته الحاسمة والتاريخية أمام فريق برازيلي عريق .. له ثقافته .. له أسلوبه .. وله خبثه الكروي الذي يعتمد على التحايل وإفراغ الخصم من كل منسوبه البدني ..

تذكرون طبعا أنني قلت لكم إن المرونة التكتيكية لا تأتي على طبق من ذهب .. لأنها ببساطة تتولد من عامل اللياقة البدنية الخارقة .. كلما كانت ليافتك عالية .. زاد تركيزك بنسبة مائة في المائة .. وكلما قلت أخطاءك .. واعتقلت كل المساحات ..

التفاصيل الصغيرة والمتوسطة تظهر بوضوح عندما يقل المنسوب البدني .. وبالتالي يضطرب التركيز .. وتظهر علامات الإعياء النفسي بوضوح على اللاعبين .. وهذا بالضبط ما أصاب الهلال في الشوط الثاني ..

لعب الهلال المباراة بوجهين يجسدان كل حالات التناقض في كرة القدم .. شوط أول رفيع المستوى .. تكاملت فيه كل خطوط الهلال .. استحوذ على الكرة .. دورها بمرونة مزدوجة .. غطى كل شبر في الملعب .. وجعل فريق فلامنجو يختنق .. ويكتفي بالفرجة على هذه الشيطنة الزرقاء..

خلق الهلال فرصا لا تحصى .. سجل له سالم الدوسري هدفا نموذجيا في كل شيء .. بداية من الامتداد الهجومي الخاطف.. مرورا بالتحرك التكتيكي بدون كرة .. ونهاية بتمريرة حاسمة من محمد البريك .. حولها الدوسري في المرمى تزغرد ..

في الشوط الثاني .. تغيرت كل المعطيات .. تفككت خطوط الهلال المترابطة .. تباعدت حلقات الوصل بين الوسط والدفاع .. برز البطء في عمليتي الارتداد والامتداد ..

كان الشوط الثاني اختبارا للمدربين.. نجح خيسوس في تبديلاته.. وأخفق لوشيسكو في قراءة متطلبات الحصانة الدفاعية ..

كان فلامنجو يلعب في مساحات شاسعة تغرد فيها طيور الكناريا البرازيلية دون نقاط أو جمرك للتفتيش .. لماذا لعب الهلال بوجهين مختلفين ..؟، هل الشوط المليء بالفوضى التكتيكية يتحمله المدرب الروماني رازفان لوشيسكو ..؟

هل انهيار الهلال في الشوط الثاني كان تكتيكيا أم فنيا أم نفسيا ؟، ألم تكن الأهداف الثلاثة التي سكنت شباك عبدالله المعيوف ترجمة حقيقية لانخفاض معدل اللياقة البدنية والنفسية ..؟

هل فعلا كان مدرب فلامنجو خورخي خيسوس ثعلبا في تجريد الهلال من سلاحه البدني أم أن لوشيسكو ساهم بطريقة أو بأخرى في تقديم الهدايا المجانية للاعبي فلامنجو ..؟، للوصول إلى فك شيفرة ما حدث للهلال في الشوط الثاني.. وهو شوط يعرفه كل مدرب خائب أو ذكي على أنه شوط المدربين .. علينا محاصرة الظروف أو لا التي ألمت بالمباراة ..

عملية إغراء البحر الهائج ..!

الهلال السعودي، فلامنجو البرازيلي، نصف نهائي كأس العالم للأندية، قطر 2019

مباراة الهلال وفلامنجو وضعتنا بالفعل أمام لقاء غامض .. لقاء لاتيني خاص يؤمن بالاندفاع الهجومي .. يؤمن بفلسفة الاستحواذ على الكرة و تدويرها .. كان هذا هو الانطباع الأول عن اللقاء .. لكن الواقع يشير إلى أننا أمام فريقين متناقضين في الشخصية.. حتى وإن كانت الهوية اللاتينية تجمعهما ..

خيسوس كان يعرف كل شيء عن الهلال .. يعرف كيف يلعب.. وكيف يضغط.. وكيف يمكن مصادرة واستنزاف قواه البدنية أولا والنفسية ثانيا.. والأهم فوق هذا وذاك أن خيسوس يعرف ثقافة لاعبي الهلال .. وهي النقطة التي استخدمها كسلاح في الشوط الثاني لتجريد الهلال من حماسه و روحه القتالية..

كان جيسوس يراقب الشوط الأول بحذر.. يقرأ الهلال .. بل ويغريه على تسريع اللعب .. ولم يكذب الهلال خبرا .. هجمات أشبه بالطوفان .. وسرعة خيالية في نقل الكرة وفي الضغط على منتصف فلامنجو .. تحول الهلال بفعل إغراء جيسوس إلى بحر هائج لا يحتاج إلى استئذان ليرمي بموجه الهادر في كل مكان ..

بصرف النظر عن التكتيك.. كانت هناك مؤشرات عامة تدل على أن جيسوس يصاقر ولا يرهق فريقه بدنيا .. نعم مؤشرات فنية وتكتيكية غابت عن الهلال بحكم الفوارق بين عناصر الطرفين .. وبحكم ثقافة الصبر التي تصنع شخصية الفرق العالمية ..عندما قرر لوشيسكو مواجهة فلامنجو بتوازن كبير.. أي بالحفاظ على نفس الرسم التكتيكي 4/2/3/1 كان يراهن تكتيكيا على مجموعته البشرية ..

كان يؤمن بأن لدى هذه المجموعة كل مقومات المقارعة .. فقط تناسى أن حمولته البشرية لن تلعب 90 دقيقة بنفس النهج .. سرعة نقل الكرة .. الضغط الرهيب على حامل الكرة .. سرعة الاسترجاع .. وسرعة التحول الجماعي من الحالة الدفاعية إلى الحالة الهجومية .. درجة التركيز ..

دفع لوشيسكو هذه المرة بالقائد إدواردو ليمارس النبش من العمق .. كان خيارا فنيا بالدرجة الأولى.. وليس خيارا تكتيكيا .. فلسفة ربما لم تتضح عيوبها في الشوط الأول بحكم أن غوستافو كولار كان يغطي كل المساحات أمام ثنائي الدفاع علي البليهي والكوري يانج هيون ..

أسس لوشيسكو شاكلته على نسق تكتيكي ثابت.. يحتم على الفريق الدفاع بأكبر عدد من اللاعبين .. وفي نفس الوقت الهجوم بأكبر عدد من اللاعبين .. معنى هذا أن لوشيسكو فرض الفريق كمجموعة متماسكة تشغل كل المساحات ولا تفرط في جماعيتها.. سواء في المناورة الهجومية أو في النزالات الدفاعية ..

طريقة أتت ثمارها بالفعل .. لأن الهلال سيطر بفضل مرونة لاعبيه وحماسهم وروحهم القتالية .. ثم بحكم أن الإيطالي سيباستيان جيوفينكو كان ترمومتر الهلال في العمق الهجومي ..

أضاع الهلال فرصة تعقيد الموقف على فلامنجو في الشوط الأول .. أهدر جوميز وسالم الدوسري وإدواردو فرصا حقيقية أمام براعة الحارس دييجو ألفيس ..ولئن بدأ فلامنجو تائها طيلة دقائق الشوط الأول .. وواقعا تحت تأثير مشاغبة وهيمنة لاعبي الهلال .. فلأن الفريق كمجموعة عجز عن تفعيل أسلوبه بالشكل الذي يجعل شاكلته ذات مؤهلات فنية قوية ومؤثرة ..تمتلك القدرة على التدبير المحكم.. سواء على مستوى البناء وصناعة التهديد أو على مستوى الدفاع ومصادرة أسلحة الهلال..

خيسوس يقبل هدايا لوشيسكو ..

الهلال السعودي، فلامنجو البرازيلي، نصف نهائي كأس العالم للأندية، قطر 2019

ترى ما الذي جعل فلامنجو المستسلم في الشوط الأول.. ينقلب فجأة إلى مارد أحمر مخطط يلتهم المساحات ويعبث بخطوط الهلال ..؟، لاشك أن جيسوس قرأ نقاط ضعف الهلال جيدا .. كان يمتلك عاملا بدنيا مهما.. وعندما بدأ الشوط الثاني بعملية ضغط رهيبة على وسط الهلال .. انكشف الغطاء البدني تماما ..

هدف التعادل يمكن اعتباره نموذجا صارخا على فلسفة تسريع اللعب .. جابريل باربوسا ينقلب إلى الرواق الأيمن .. يجذب معه يانج هيون .. تحرك تكتيكي فتح الطريق أمام القادم من الخلف دي آرتسكايتا .. الذي تلقف الكرة العرضية دون ضغط أو رقابة وجاء هدف التعادل .. لاحظوا أن لاعبي فلامنجو خلقوا لأنفسهم مساحات شاسعة .. لأن خط وسط الهلال بدأ يتحلل ويفقد بريق هويته ..

لقد حرك جيسوس كل أسلحة الطوارئ.. لعله كان يدرك أن الهلال انتهى بدنيا .. لهذا منح شاكلته الحمولة الفنية التي تزيد لياقة لاعبيه توهجا وقوة ..

وإذا كان نزول دييجو قد جعل الوسط الحلقة الأساسية التي تشد نسق الشاكلة.. سواء في التحركات الهجومية الخاطفة أو في الارتداد الدفاعي .. فقد منح جيرسون وبرونو المساحة الضرورية لاستعادة الثقة وفرض الذات ..

اختنقت طريقة التواصل بين خطوط فريق الهلال.. ولم يعد بمقدور الوسط تحريك الآليات بنفس براعة الشوط الأول .. خصوصا وأن لاعبي فلامنجو اعتمدوا في الشوط الثاني على ممارسة الضغط المتقدم وبشكل خانق كسلاح حاد ومثمر ..

حاول لوشيسكو التخلي عن أسلوب الاستحواذ والاعتماد على اللدغ عن بعد .. كان يرى فلامنجو وهو يضاعف من سرعة لعبه لإحباط الهلال مبكرا .. ولم يكن خيسوس يتوقع أن تصله هدية من لوشيسكو .. هدية تكتيكية قلبت الطاولة على رأس الهلال..

في لحظة غريبة .. أخرج لوشيسكو لاعب الوسط الرابط جيوفينكو ..وعوضه المهاجم السوري عمر خريبين .. يا إلهي .. كيف يسحب لاعب وسط .. ويزج بمهاجم قار ؟، هل يعتقد لوشيسكو أنه يواجه فريق الطائي أو الفيحاء ..؟
كان هذا التغيير غير المنطقي بداية للانهيار النفسي .. وبداية لتحول تكتيكي خطير..

الهلال السعودي، فلامنجو البرازيلي، نصف نهائي كأس العالم للأندية، قطر 2019

أصبح الهلال يلعب بمهاجمين في العمق .. وأصبح خط الوسط بلا حماية من العمق لأن إدواردو انتقل ليؤدي دور صانع الألعاب، من وجهة نظري كان يجب الزج بعبدالله عطيف في محور الوسط.. و نقل إدواردو ليؤدي مهام جيوفينكو ..

لكن .. حدث ما حدث .. هذا التغيير في استراتيجية لعب الهلال.. أحدث الفارق بين الطرفين .. الهلال فقد مخالبه في الوسط الدفاعي .. وفقد كل خيوط السيطرة .. فتخلخلت خطوطه تماما .. وأدخلته في مرحلة انسداد تكتيكية ونفسية ..

لياقة لاعبي فلامنجو مكنتهم من الجري والتحرك بحرية دون قيود في العمق وفي الرواقين .. كانت فاعلية فلامنجو عالية.. وهذا دليل على أن الطراوة البدنية جزء من ثقافة اللاعبين .. فقط كيف يمكنك تقسيمها وتوزيعها .. بعكس الهلال الذي لعب شوطا بنسق عالي جدا.. فانهارت قواه في آخر المطاف ..

تناقل لاعبو فلامنجو الكرة بدقة وسرعة فائقة .. ولم يستطع لاعبو الهلال مجاراة رفاق إيفرتون في الحركة والجهد بفضل العامل البدني والتفوق الفني .. كما لو أن المهاجم برونو هينريكي خرج من القمقم كالمارد .. فقد أرهق مدافعي الهلال كثيرا .. نبش طويلا في جدار الهلال المتصدع وسجل الهدف الثاني برأسية جميلة .. وكان هذا اللاعب هو من صنع الهدف الأول ..

أما الهدف الثالث فقد جاء عبر علي البليهي الذي حاول إبعاد عرضية إيفرتون فسكنت الشباك ..

كان فلامنجو صبورا .. فاز في النهاية بأقل مجهود ممكن .. وادخر ما تبقى من صبر للمباراة النهائية .. فهل تسعفه هذه الفلسفة حتى النهاية ..؟

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى