كيف انهارت كرة القدم الحديثة بشكل لا يمكن إصلاحه؟ (الجزء الثالث)

تقرير – محمد يوسف

القوى التي قادتنا إلى هذا الوضع تعتبر بنفس أهمية تأثيرها.

في البداية كان الأمر مفاجئاً بالنسبة للأربعة عشر نادياً في إنجلترا، ثم بدأوا الإحساس بأن “الستة الكبار” يستغلونهم فقط.

الحجة المستمرة في إنجلترا هي أن: “الستة الكبار” هم الأندية التي تسترعي كل الاهتمام الدولي، وبالتالي فهي تستحق المزيد من الأموال. ومن الواضح أن الحجة المضادة هي أنهم بحاجة إلى فرق أخرى ليلعبوا ضدها، وأن مبدأ تأسيس الدوري الإنجليزي الممتاز قائم على المساواة.

والمعضلة الأكثر تعقيداً هي أنه كلما زادت الأموال التي يتلقاها “الستة الكبار”، أصبحوا أنديةً أفضل، والأكثر جاذبية إلى الجمهور، ويعقدوا صفقات تجارية أفضل. وكلما أصبحوا أفضل وأكثر جاذبية، تتكرر نفس هذه الدورة، وتستمر زيادة الفجوة.

في كل مرة يظهر نقاشاً حول توزيع الإيرادات للبث التلفزيوني، تبدأ الأندية الكبرى في طرح مبدأ الجاذبية. ولكن هذه المعضلة، التي لا تزال قائمة وتتزايد في اللعبة، هي صورة مُصغرة للوضع الأكبر الذي أدى بكرة القدم إلى حافة الهاوية.

لقد اجتاحت الرأسمالية اللعبة، نعم بالتأكيد، ولكن ما ضاعف المشكلة هي أن أصحاب المصلحة الأكثر نفوذاً قد تبنوا ذلك إلى أقصى حد. لم تكن هناك تقريباً أي مقاومة أو تنظيم، مما أضاف في حد ذاته طبقات جديدة من المشاكل الذاتية. وكانت عدوانية الأندية الكبيرة جزءا أساسياً منها، ولهذا السبب تهدد المشكلة بأن تزداد سوءاً.

كما يقول جولدبلات أن المشكلة ضخمة؛ بسبب أن تلك الفوارق كانت متجذرةً بالفعل في هيكل كرة القدم العالمية، قبل حتى أن تدرك السُلطات ضرورة أن تفعل شيئاً ما حيال ذلك. حيث كان هذا التجذر الأولي، بطبيعة الحال، رأسمالياً بشكل واضح.

الحالة الأولى كانت في إنجلترا في عام 1983، حيث كانت إحدى لوائح الاتحاد الإنجليزي في ذلك الوقت، من القرن التاسع عشر، تُسمى القاعدة 34، والتي تنص على أن الأندية هي مؤسسات اجتماعية. فالقاعدة 34 تحظر على المديرين أن يتقاضوا الأموال، وقصرت الأرباح على حاملي الأسهم.

نادي توتنهام كان أول الأندية التي اتجهت إلى طرح الأسهم في سوق البورصة، لذا طلبوا تشكيل شركة قابضة للتهرب من قيود القاعدة 34. فلم يعترض الاتحاد الإنجليزي، وبدلاً من ذلك سمح بتجاوز القانون. وافق هذا، في منتصف الثمانينيات، تغيير توزيع الأموال، والذي شهد حصول الفريق صاحب الأرض على نسب أكبر، وهذا وجه مزيداً من الأموال نحو الأندية الأكبر.

وكما يذكر جولدبلات: “ما فعلته اتحادات كرة القدم، باستثناء الاتحاد الألماني، بتخطي مثل هذه القوانين، كان له أكبر الأثر فيما وصلنا إليه حتى الآن”.

الانتقال من المدرجات إلى البث التلفزيوني

العاهل الإسباني الملك خوان كارلوس (يمين) بجوار السياسي ورجل الأعمال الإيطالي سيلفيو برلسكوني

ولكن، في ذلك الوقت من الثمانينيات، كان التأثير المالي يتحرك من المدرجات إلى مكان ما دون سياج أو مقاعد، إلى مكان لا يملك أي حدود على الإطلاق: وهو البث التلفزيوني.

استيلاء سيلفيو برلسكوني على إي سي ميلان، في عام 1986، أعطاه الفرصة لتجربة أفكاره الخاصة بالبث التلفزيوني لكرة القدم، والتي أحدثت ثورة في عالم البث التلفزيوني في هذه الرياضة. رأى غول الأعمال الإيطالي اللعبة على أنها “أعجوبة تلفزيونية في جميع أنحاء العالم”، وأن هذه الإمكانية المذهلة تُهدر على الأفكار ضيقة الأفق. شعر أنه من السخف أن أكبر الأندية لم تتواجه بانتظام في مباريات كبيرة تأتي بالأرباح.

وسعى برلسكوني إلى عرض المسألة على الاتحاد الأوروبي من خلال لعب أول بطولة أوروبية كُبرى للأندية. رفض الاتحاد الأوروبي الفكرة حينها، لكن كان الأمر مجرد مسألة وقت؛ ففي عام 1992-1993، ضم أول دوري لأبطال أوروبا بالنظام الجديد العديد من الأفكار نفسها التي عرضها بيرلسكوني، وصولاً إلى العلامة التجارية والنشيد الوطني للبطولة.

ولم يكن من قبيل المصادفة أن ينطلق الدوري الإنجليزي الممتاز في نفس الوقت، متأثراً بنفس الأفكار، ومدفوعاً بنفس الحافز: الأموال والأرباح.

الطبيعة المتهالكة لكرة القدم في الثمانينيات جعلت من هذا الأمر ضرورياً؛ حيث احتاجت اللعبة بشدة إلى التحديث والتطوير، واحتاجت بشدة إلى التمويل للقيام بذلك، فضلاً عن سبل لزيادة هذا التمويل. والأموال ستأتي من صفقات بث تلفزيوني أفضل من خلال مسابقات لامعة للأندية الكُبرى. المشكلة هي إلى أي مدى انتقل الأمر إلى الجهة المعاكسة، وهو ما أفسح المجال للانهيار الحالي.

قانون بوسمان ودوري أبطال أوروبا

اللاعب البلجيكي جان مارك بوسمان

بعد انتهاء أوجه الحماية الداخلية، مثل القوانين التنظيمية، انفتحت اللعبة أكثر من قبل على القوى الخارجية.

من بين أعظم القوى الخارجية كان سقوط الشيوعية، مما يعني أن دول شرق أوروبا مثل بولندا وأوكرانيا لم تتمكن من الحفاظ على لاعبيها النجوم داخل الدوريات المحلية. ثم كان هناك تأثير محكمة العدل الأوروبية، وقانون بوسمان في عام 1995، والذي يجعل اللاعبين أحراراً بمجرد انتهاء العقد مع النادي، كما يحظر على الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي واليويفا فرض نظام الحصص على اللاعبين الأجانب. سبب هذا تغييراً هائلاً في السوق، بل أنه خلق سوقاً جديداً بالكامل: سوقاً عماليةً ضخمة، أكثر عالمية من البنوك.

كان قانون بوسمان وإنشاء أسواق عمل عالمية في غاية الأهمية. كما تسبب هذا في إنشاء شبكة ونظام عالميين من الوكلاء والكشّافين للأندية. كما أن عولمة هذه الأسواق ذاتها جعلت من المستحيل تنظيمها.

مثلاً بشأن اللوائح التنظيمية، ذكر الاتحاد الدولي “فيفا” في عام 2016 أنه لا يستطيع مراقبة ما يحدث في 200 دولة، لذا سيتخلى عن المشروع بأكمله، ولقد فعلوا ذلك فعلياً من حيث الديمقراطية في اللعبة. مما خلق آلية أخرى للاستمرارية الذاتية؛ وهي آلية يقودها في نهاية المطاف البطولة الأكبر على الإطلاق: دوري أبطال أوروبا.

وربما خلقت هذه البطولة، أكثر من أي شيء، هذا الحد المالي الأدنى. لقد أصبحت البطولة شعبية إلى الحد الذي جعل جائزتها المالية هائلة ببساطة، قد تغيّر الحياة بالنسبة للعديد من الأندية، وتغيّر اللعبة بالنسبة للرياضة ككل. تأثير قاس لدرجة أنه يشوه كرة القدم بشكلها الجديد.

بمجرد الوصول إلى مرحلة المجموعات هذا الموسم، يكسب النادي 15.25 مليون يورو. والوصول إلى نهائي اسطنبول يساوي 62.25 مليون يورو، وهذا قبل أن تأخذ في الحسبان كثير من المكافآت الأخرى. مثلاً حاز توتنهام الإنجليزي العام الماضي على ما يقرب من 100 مليون جنيه إسترليني من البطولة.

هذا، بالصدفة، هو الرقم الذي ضخه جاك ووكر في نادي بلاكبيرن روفرز، ليجعل من ناديه بطل الدوري الإنجليزي الممتاز في موسم 1994-1995 بالقوة المالية الغاشمة. لكن هذا الرقم الآن لن يحدث أي تأثير يُذكر.

لاعبو توتنهام يتسلمون الميداليات الفضية عقب الخسارة من ليفربول في نهائي دوري الأبطال

كما يذكر جولدبلات: “هذا هو الفارق الواضح؛ نوتنجهام فورست لم يتحول إلى قوة اقتصادية من خلال الفوز بدوري الأبطال مرتين في الماضي، في حين أن البطولة الآن تجذبك إلى منطقة اقتصادية مختلفة تماماً. لقد رأينا هذا مع أصغر الدول الأوروبية، حيث يكفي أن يتمكن أي فريق كل عام من الوصول إلى مرحلة التصفيات، ليس حتى المجموعات، ليحصل على أسبقية مُفضلة عن باقي الفرق في سباق الدوري”.

قوى اللعبة الحديثة لا تمنح الأندية خارج أندية النخبة الوقت والمساحة الكافية للوصول إلى مستوى المنافسة على دوري الأبطال. هناك الكثير من القيود التي يجب تحطيمها في الطريق، مع الكثير من طبقات الأموال على القمة. مثلاً استفاد “الستة الكبار” في إنجلترا بنحو 93% من أموال بث التلفزيون الأوروبي في السنوات الثماني الماضية.

وقد حاولت بعض الأندية، مثل فالنسيا وليدز يونايتد، كسر هذه القيود من خلال استثمارات ضخمة، لكنها كادت أن تودي بها إلى حافة الخراب. كما حاول إدخال قانون اللعب المالي النظيف أن يمنع ذلك، لكن القانون جاء متأخراً للغاية، فبدلاً من أن يخلق توازناً ضرورياً من أجل التنافس في كرة القدم الأوروبية، عزّز من المستويات القائمة بالفعل.

ويقول جولدبلات: “لو كان الاتحاد الأوروبي قد قدم قانون اللعب المالي النظيف قبل 20 عاماً، أعتقد أنه كان سيحدث فارقاً ملحوظاً. وأعتقد أنه كان سيمثل رادعاً للملاك الأجانب ممن يمتلكون كثير من الأموال والأهداف السياسية”.

في نهاية المطاف، لقد كان بريق دوري أبطال أوروبا هو ما جذب رومان أبراموفيتش لأول مرة إلى عالم كرة القدم.

كرة القدم عمل استعراضي أكثر من كونها رياضة

تتويج ليفربول بدوري أبطال أوروبا عام 2019

بدأت كل هذه العوامل تجتمع بشكل واضح بالقرب من عام 2010، لتضع هذه المجموعة المتميزة من الأندية في مستوى آخر، والذي كان يرتفع إلى الأعلى فحسب، لقد غير كل هذا من تكوين الأندية نفسه.

المصادر الهائلة للدخل حولت أعمال نادي كرة القدم إلى أعمال ترفيهية عالمية، هنا يتوقف نادي كرة القدم الكبير عن التشبه بالسيرك المحلي ليصبح أشبه بملاهي “والت ديزني”.

لم تعد مجرد أندية لكرة القدم فحسب، بل تحولت لمقدمي محتوى ممتع. ولهذا فإن المزيد من أندية ليستر سيتي ببساطة لا تتناسب مع أندية النخبة، فهي ليست جيدة للمحتوى الخاص بهم.

كما يذكر كالديرون: “أعتقد أنه شيء لا يمكن تجنبه. أصبحت كرة القدم عملاً استعراضياً. الملاعب بمثابة تلفزيون كبير، حيث يقدم 22 لاعباً الأداء الاستعراضي. إنها عمل استعراضي، في بعض النواحي، أكثر من كونها رياضة”.

ولكن الأعمال الاستعراضية لا تهتم بالمسارح الصغيرة. هكذا هي الحياة!

ولكن هل من الضروري أن يكون الأمر كذلك؟

حسناً، هذا هو التوتر الحادث في قلب اللعبة، والسؤال الكبير، وهو التناقض بين المصلحة الذاتية والتعاون في مجال الرياضة الاحترافية.

يرثي جولدبلات الحال الذي وصلت إليه كرة القدم: “أنظر إلى الأندية الكبيرة ورغبتهم اللانهائية لمزيد من المال، وأفكر في نفسي: ما الفائدة؟ فالأمر ليس كأنك تجني الكثير من الربح هنا. إذا لماذا تفعل ذلك؟ أعتقد أن من يديرون هذه الأندية يحتجزون أنفسهم في طريقة تفكير مدمرة ذاتياً، ويبررون لأنفسهم بإنهم يجب أن يحصدوا المزيد من الأموال لكي يملكوا منتجاً أفضل، ولكن لأجل ماذا؟ ففي أي قطاع اقتصادي آخر، يحاول الناس السيطرة على منافسيهم، لكن من الواضح أن ذلك لا يحدث في كرة القدم”.

لا يمكننا أن نسمح بتدمير النظام الإيكولوجي لكرة القدم لصالح مجموعة صغيرة من الأندية. الأمر لا يتعلق بالأموال فحسب، ينبغي أن نتذكر القيمة الاجتماعية لكرة القدم، والدور الذي تلعبه في المجتمعات.

ولكن يظل التساؤل قائماً: ما الذي يمكننا فعله حيال ذلك؟

 

الجزء الثالث من تقرير خاص في صحيفة الإندبندنت

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى