محمد الشلهوب.. سيرة هلالي لنجم في العلالي

تقرير – محمد العولقي

اسم كبير يحتل مساحة شاسعة من جغرافيا الكرة السعودية، وعندما تفتش في تضاريسه عن بره وبحره وجوه، فهو دائما فرقد لا يأفل نجمه.. لاعب معاصر مخضرم لا يحتاج مني أومن غيري مقدمات تعريف بمكانته الزرقاء وعظمته الكروية الخضراء المرموقة، وعندما يتجول في بقاع القرية الإلكترونية المسماة (الأرض)، ويعرف بنفسه فضائيا وأرضيا، يكتفي بكتابة كلمتين فقط محمد الشلهوب..

وهل يحتاج معلم كبير قضى حياته في خدمة الأزرق و الأخضر إلى تعريف أو مقدمات ..؟هو كتاب أزرق الهوى وأخضر الهوية يقرأ من عنوانه، صنع مجده الذهبي بحكمته كلاعب محبوب لم يخرج يوما عن النص، وكتب دائرة معارفه الكروية بقدم يسرى ساحرة، بريقها أصدق أنباء من كل سيوف المتنبي .. إذا كان للأخلاق الرفيعة شروط ومبادئ فمحمد الشلهوب هو قانونها وهو قاموسها المحيط بلا منازع، فطوال عقدين من الخدمة الكروية في ملاعب الكرة لم نسجل عليه مخالفة واحدة، هذا لأنه ظاهرة استثنائية في عشقه العذري وفي إخلاصه للقبيلة الهلالية الزرقاء ..

كثيرون هم من كتبوا السيرة الهلالية الزرقاء، منهم من برع في الحبكة الدرامية، ومنهم من مارس تجليات العشق عبر دواوين مجنحة تسافر مع الزمن إلى كل بيت، لكن محمد الشلهوب الذي بنى للمجد سلالم من الأرقام القياسية المدهشة غادر الملاعب بعد أن لامست أرقامه قمة جبل إيفرست، هناك ترك الصقر الهلالي الذي يحلق عاليا بعيدا عن السفوح والأخاديد ريش الخلود، فيكفي أنه بات سيرة هلالية مختلفة، سيرة لا تحتاج إلى مقدمة ابن خلدون للتعريف بصاحبها.. حسنا .. لماذا تختلف سيرة محمد الشلهوب قولا وفعلا عن سيرة بني هلال ..؟

الإجابة ببساطة .. محمد الشلهوب لاعب مهذب ومؤدب طيبته الشديدة دليله للاستحواذ على قلوب زملائه وكل الجماهير العربية، شهدت مسيرة محمد الشلهوب المظفرة الكثير من فواصل المد والجزر في رحلة فيها الكثير من الانتصارات والقليل جدا جدا من الانكسارات .. ففي الانتصارات كان الشلهوب يؤدي طقوس التواضع ولا يغرد خارج السرب، وفي الأزمات أو الملمات يحلق الشلهوب بجناحي الصبر الجميل، فيقف في وجه العواصف والأرزاء شامخا مثل نخلة يتساقط منها رطب جنيا ..

محمد الشلهوب الذي اشتهر بمراوغاته البارعة، وبمناوراته المدهشة على الرواقين يتحول من غول أزرق لا يبقي ولا يذر داخل الملعب إلى رجل تلقائي خارج الملعب، له قلب طفل برئ وابتسامة حانية تكشف كل ما يدور في أعمق أعماقه، لا يلف ولا يدور، الذي في قلبه على لسانه دائما .. أبدا والله .. محمد الشلهوب ليس ملاكا هبط على بني هلال من السماء الزرقاء في لحظة تزاوج بين برجي الجدي والسرطان، إنه مجرد بشري بمواصفات خاصة، لكنه يبدو متناقضا في وجهيه الكروي والإنساني ..كرويا .. محمد الشلهوب يفرح ويغضب في حدود، دائما يتحكم في هرمون الأدرينالين، لا يسمح لهذا الهرمون بالسيطرة على انفعالاته مهما كان حجم الحدث، لاعب مكافح ومقاتل خلوق وعنيد في تطلعاته المشروعة، ولكنه رغم كل هذا الطوفان داخل الملعب تعلم في الهلال أن الحب والنفوس قبل الطمع والفلوس.. إنسانيا ..

محمد الشلهوب مثل نسمة الهواء، خفيف الظل، مقالبه البسيطة تأتي بردا وسلاما على قلوب زملائه، لم يدخل يوما ما في جدل عقيم مع زميل أو صديق، لم يبح يوما ما بأسراره للصحافة، كان ولازال قلبه الأزرق مخزن أسراره، لم يخالف قانون الهلال الأزرق أو يطلب ما هو فوق القدرة والاستطاعة، رجل الصدق بوصلة قلبه، لا ينكث بالوعود ولا يخون العهود، هلالي أصيل راعى العيش والملح طوال فترة حكمه كقائد استثنائي لهلال استثنائي فوق العادة،
وعندما ترجل الفارس الأزرق عن حصانه في العاشر من سبتمبر الحالي معلنا الرحيل، تدفقت الدموع من الهلاليين وغير الهلاليين أنهارا، ربما كانت هي المرة الأولى التي تتحد فيها قلوب النصراويين مع الهلاليين، وتساءل الجميع عن سر كل هذا العشق والاحترام لمحمد الشلهوب ..

تنفس الشلهوب من مسامات ملاعب كرة القدم لأكثر من 20 عاما، وطوال كل هذه التراكمية لم يرفع الشلهوب صوته في وجه إداري أو مدرب أو زميل، لم يتأستذ على ناديه أو يلوي ذراعه طمعا في عقد بامتيازات خاصة، كان وفيا ومنضبطا وملتزما لم يعر الشهرة أدنى اهتمام، كان يرى في صيحات جماهير الهلال حطبا يرمى به في موقد الحماس فيتدفق هذا القصير المكير مثل موج هائج لا يلوي على شيء، هذا لأن الشلهوب كان يؤمن بأن الانتصارات هي أقصر الطرق المؤدية إلى قلوب الملايين ..

ربما كان محمد الشلهوب أكثر لاعبي عصره مكانة وتميزا، فهو في الأصل خلطة مواهب، لاعب معجون بالياقوت والبارود، كان آخر من أطرب مدينة الهلال الفاضلة بباقة مما يطلبه المشاهدون، كان مثل حبة البركة كلما تعرض الهلال لطارئ صحي في النتائج يأتي الشلهوب ببركته ليحل الإشكالية ويضع النقاط تحت وفوق الحروف دون تأخير، الشلهوب طائر يأتي بوجبة المساء في موعدها، ويأتي للهلاليين بالأفراح من رحم الأعياد، لاعب جريء .. هداف .. صانع ألعاب .. يقدم الحلوى للمهاجمين في لفافة زرقاء براقة .. إنه نحلة زرقاء طرحت للهلال عسلا مستساغا فيه لذة للشاربين الهلاليين وغير الهلاليين ..

عاصر الشلهوب ثلاثة أجيال هلالية، جيل الفيلسوف الأزرق يوسف الثنيان، وجيل العقرب السام سامي الجابر، وأخيرا جيل الأفعى الهلالية الرقطاء سالم الدوسري، ومع كل جيل كان الشلهوب يبصم على رحلة تألق، لكنه رغم ثقله في الهلال وشخصيته المؤثرة كان يصغي إلى نداء الأعماق ويتعلم، وهو بشهادة كل من عاصروه في النادي والمنتخب مستمع جيد، لا يقاطعك، و لا يتبرم أو يغضب غضبة مضرية، دائما هادئ الطباع، خجول حتى مع نفسه، لكنه يترك الحديث والكلام لقدمه داخل الملاعب، قدمه التي تحيط المنافسين بمجال مغناطيسي الداخل فيه مفقود والخارج منه مولود، ومثله لا يتأخر عن عشاق متعته الكروية، ولا عن مواعيد تقديم أطباقه الكروية الشهية والمثيرة للإعجاب، فهو من النوع الذي يأتيك طائره بالربيع قبل أن يرتد إليك طرفك ..

يغادر الموهوب الشلهوب الملاعب، و يهجر ويفارق ميادين حبيبة قلبه وموازينه الزرقاء ثقلت بأربع وثلاثين بطولة، يا الهي .. رقم الشلهوب مع البطولات يفوق مجموع كل البطولات التي حققتها بقية الأندية السعودية في دوري المحترفين لنصف قرن ..!، يستطيع محمد الشلهوب أن يفخر ويفاخر بهلاليته وببطولاته، فهو إن أراد التعريف بنفسه للأجيال القادمة ما عليه إلا أن يكتب: الشلهوب 34، وعندها ستسكت أمام هذا المارد الأزرق كل أبواق الديكة عن الكلام المباح ..

وفي تقديري أن أرقام محمد الشلهوب ستصمد طويلا في الملاعب السعودية والآسيوية، فلا أحد مستقبلا يهدد رقم بطولاته ولا مركزه العالمي خلف البرازيلي داني آلفيس والإسباني أندرياس أنييستا والأرجنتيني ليونيل ميسي، وربما احتاج مشروع تحطيم رقم الشلهوب القياسي إلى قرن كامل من الانتظار، أقول ربما لأن بلوغ هذا الرقم معجزة في زمن ولت فيه المعجزات وانقرضت شأنها شأن الديناصورات ..

أكثر ما أسعدني في قرار الشلهوب باعتزال الكرة في أوج توهجه مع الهلال أنه تعامل مع قاعدة سيرك (والت ديزني) الاستعراضية بذكاء ثعلب وحدس ذئب وبعد نظر زرقاء اليمامة، باختصار ( اترك العرض في الوقت الذي يطلب الجمهور بالمزيد)، هذه هي القاعدة الاستعراضية الشهيرة التي طبقها الشلهوب بحذافيرها في ليلة فرح زرقاء كان فيها سيل منسوب العشق الأزرق بين الشلهوب وجماهير الهلال قد بلغ الزبى ..!

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى